
بقلم: مريم أبوري*
تبقى المرايا الوسيلة التي نرى من خلالها انعكاس ما نحن عليه، وما نحمله في دواخلنا. وما خطَّه الكاتب نور الدين طاهري بين طيّات هذا الكتاب ليس إلا انعكاسًا لذاته وعمق روحه؛ إذ ألقى بنفسه في عمق بحرها، مسلّحًا بملكة التأمّل، كي يغوص دون أن يغرق، بل ليخرج من هذا العمق بدرر فكرية وتأمّلية صافية، جمعها في عقدٍ فريدٍ من ثلاثين لؤلؤة/فصلًا.
للحصول على كل حبّة من هذه اللآلئ، خاض الكاتب رحلة طويلة، تجلّت في عملية هدم وتفكيك، ثم إعادة بناء وتكوين. وهذا ما تُعبّر عنه لوحة الغلاف، حيث تظهر الأحجار الملساء مكدّسة بطريقة توحي بأنها ستفقد توازنها، لكن العكس هو الصحيح؛ فقد ظلّ التوازن والتماسك قائمًا بينها، دون أن يركن إلى استنتاجات جاهزة.
ابتدأ برحلة “اليقظة الأولى”، حيث أخذنا في استكشاف اللحظة التي بدأ فيها الكون بالتشكّل، فحكى لنا الحكاية، ثم انتقل إلى “بزوغ الوعي”، حيث مع انبثاق الحياة على وجه الأرض، بدأت الكائنات تتشكل وتنمو وفقًا لقوانين الطبيعة العمياء، بلا نيّة ولا غاية واضحة سوى البقاء. ومن هنا كان “صعود الحضارة” ببزوغ الوعي الإنساني، مذكّرًا بأن صعود الحضارات يحمل في طيّاته دائمًا بذور السقوط؛ إذ سمّى اللؤلؤة الرابعة “سقوط وانبعاث”.
هذا ما دفع الإنسان إلى الغوص في “حكمة الوجود”، حيث تعلّم من تجاربه معنى جديدًا للحياة. وكانت هذه الحكمة مفتاحه لاكتشاف أن الغاية الكبرى من رحلته هي “العودة إلى الأصل”، حيث تكمن متعة الحياة في بساطتها، مما جعله ينسجم مع الكون ويدخل في “الاتحاد معه”، ليكتشف أن الإنسان والكون مرتبطان لا منفصلان، وجودًا ومصيرًا. وهكذا يصل إلى “الخلود في النور”، الذي لم يُدركه إدراكًا حقيقيًّا إلا بعد رحلته في الحكمة والاتحاد مع الكون. ومن هنا جاء “الانبعاث الجديد”، ليأخذه نحو الخطوة الأولى في مستويات عليا من الإدراك والوجود، حيث “يتجاوز الإنسان حدود الفهم التقليدي للحياة والموت، ويُصبح قادرًا على إعادة تشكيل ذاته وفقًا لقوانين الكون الأسمى”.
لينتقل بعدها إلى “أفق اللامحدود”، حيث “تتلاشى كل القيود التي عرفها… ويبدأ في رؤية الكون بكل إمكانياته غير المحدودة”، فيتحرّر من القيود، ليُصبح مبدعًا في تشكيل واقعٍ جديد والعيش فيه. عند هذه المرحلة، يكتشف في اللؤلؤة الحادية عشرة “ألوان الوجود”، ومعانيها التي لم يكن يُدركها قبل رحلته، حيث تصبح أدواته الإبداعية أكثر رهافة وقدرة على التعبير عن ذاته بعمق.
يتابع الكاتب رحلته التي تكشف له “التجسيد في الزمان”، ويفهم أن الزمن ليس سوى مسرح للبناء وإعادة التشكيل، فيكون مرنًا وهو ينتقل عبر هذه الحياة، حتى يخوض في “عوالم التوازن”، حيث لكل عنصر في الكون نقيضه الذي يُسهم في تحقيق التوازن، “سواء كان النور أو الظل، الحركة أو السكون، الفعل أو التأمّل”. ومن خلال “النسيج المرئي”، يدرك أن كل شيء متصل في هذا الكون، وأن هذا الترابط ضروري من أجل الحفاظ على التوازن، الذي يُمثّل جوهر الوجود.
ثم يغوص في “سر الحياة المتجدّدة”، باحثًا عن تلك القوة الخفية التي “تدفع الإنسان نحو اكتشاف أبعاد جديدة من نفسه ومن العالم من حوله”، مما يُوصله إلى مرحلة أسمى من الوعي، حيث تتجلّى “تجلّيات الوعي المتكامل”، التي تُعمّق إدراكه لذاته وللكون، ليعيش كل لحظة من حياته بوعي جديد عبر “أبعاد الحقيقة المتعدّدة”، متجاوزًا الفهم الأحادي المبتسَر للحقيقة، ومدركًا لـ “تحوّلات الطاقة والوجود”، مما يخلق تفاعلات متشابكة تُغني التجربة الإنسانية باستمرار.
يواصل الكاتب الغوص في بحر التأمّل، حتى يصل إلى اللؤلؤة العشرين، التي تكشف له “تجسيد الوحدة في التنوع”، إذ يرى أن “جوهر تحقيق التوازن والتكامل في الحياة يكمن في تقدير الاختلافات وتكاملها، مما يخلق واقعًا غنيًّا متناغمًا يعكس جمال التنوع وقوة الوحدة”. ومن هنا، يتوغّل أعمق ليجد لؤلؤة “عمق الزمن وتداعياته”، ثم “استراتيجيات التأثير والنمو”، التي تُسهم في إثراء الحياة وتوجيهها نحو الأفضل، وتليها “فلسفة الوجود وتجليات المعنى” عبر النقد والتأمّل العميق، لتحقيق “آفاق الإبداع والتجديد”، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي.
وتتوالى الاكتشافات، حيث يصل إلى لؤلؤة “فلسفة الرفاهية والتوازن”، التي تتيح له “عيش حياة غنيّة ومُرضية”، في ظل “حكمة الانتصارات على الذات”، التي تنبع من القوة الداخلية. وهكذا يواصل الكاتب “رحلة الخلود في الفكر والذكرى”، مستوعبًا أن الخلود ليس في استمرار الجسد، بل في استمرار الأفكار التي يبنيها ويتركها إرثًا إنسانيًّا بعد رحيله عن هذا العالم، وهو ما يدفعه إلى “الصعود في معراج الروح والتجدّد”، عبر السير المستمر نحو النور والتجدد، وتحقيق التوازن بين “العالم المادي والروحي”.
وتبقى رحلة “البحث عن السلام الداخلي” الهدف الأسمى “الذي يسعى الإنسان إلى تحقيقه بعد اجتياز كافة مراحل الرحلة الروحية والفكرية”، ليصل في النهاية إلى “العودة إلى الذات والاكتِمال”، التي لا تُشكّل نقطة نهاية حسب ما توصّل إليه الكاتب، بل “هي نقطة البداية الجديدة”، حيث يتمكّن الإنسان من العيش في حالة من الصفاء والهدوء الداخلي، متحرّرًا من القيود التي كانت تُثقله، ويدرك أن الرحلة لم تكن بحثًا عن شيء بعيد، بل كانت دائمًا نحو الداخل، نحو ذاته.
هكذا تنتهي هذه الرحلة التي أهدانا فيها الكاتب ثلاثين لؤلؤة تأمّلية، منسجمة مع رؤيته للكون والذات كمزيج متكامل. هذا الكتاب ليس بحثًا أكاديميًا في الفلسفة، بل هو “كتالوج وخطة طريق” لفلسفة حياة توصّل إليها الكاتب بتأمّله الخاص، وقد تصلح لأيٍّ منّا، وقد تكون دافعًا لنا للتأمّل بطرقنا الخاصة. فمن يدري؟ قد يقودنا تأمّلنا إلى جواهر أخرى.
كتاب يستحق القراءة والتأمّل في كل فصل ولؤلؤة منه.
رحلة كُتبت بنفسٍ روائيٍّ مُبدع، بلغةٍ جميلةٍ راقية، تتناغم بشاعرية مع قصة الكون والذات. وتبقى لوحة الغلاف في غاية التعبير عن مضمون الرحلة، حيث ترمز الأحجار المتراكمة إلى التأمّل الذي ينشد التوازن، رغم أنه يبدو في الظاهر هشًّا.
هنيئًا لـ”منشورات النورس” على هذا الإصدار
*كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا