ممنوع على النسا

كاد المعلم …

محمد عفة

  لن أنسى – أبدا – يوم كنا في المستوى الدراسي الابتدائي الأول، مشهدا كان يتكرر كل صبيحة بمدرستنا الابتدائية التي كانت لنا بمثابة أم، اقتداء بمطلع محفوظة طالما رددناها  “أنا المدرسة اجعلني … كأم لا تمل عني “. مدرستنا التي كانت تحمل اسم أحد رموز المقاومة الوطنية، والوحيدة بالمنطقة بحيث كان يتوافد عليها تلميذات وتلاميذ يقطنون بمختلف الأحياء الشعبية وعلى هامشها حي صفيحي، أحياء رغم بساطتها وهشاشتها تجمعنا حولها على قيم التضامن ولحمة التماسك، التي تظهر بكل تلقائية حينما يشب حريق بالأكواخ الصفيحية حيث تحتمي ساكنتها بالدور الاسمنتية  المجاورة، أو حينما يقع زلزال فيلتجئ سكان هذه الدور بالحي الصفيحي. و يدوم هذا اللجوء الاضطراري إلى حين زوال الخطر و يعود اللاجئون الى بيوتهم.

مدرستنا هذه كانت لبنة صلبة لجدار المسار الدراسي للعديد من الأطر العليا منهم من ساقته الأقدار للتعرف عليه، و منهم من تتحدث به الركبان.

وأعود الى المشهد الذي كان يتكرر كل صبيحة بمدرستنا، و نحن وقوفا بساحتها الفسيحة والنوم لا يزال ملتصقا بأجفاننا، نترقب ظهور معلمنا “السيد ت ” بحيث كنا نسترق النظر ونصيخ السمع إلى هدير دراجته النارية المتميز و المألوف لدينا. كان يطلع علينا كالعادة على متن دراجته النارية الشعبية ” سوليكس “. يمتطيها في شموخ كفارس يمتطي صهوة جواده، بقامته الطويلة و بجسم شديد النحول لم تفلح بدلته الرمادية الاعتيادية اخفاء معالمه.. فقلما كان يغيرها لكنها كانت دوما تبدو نظيفة. و صفحة وجه بياضها حليبي تتوسطها نظارات شمسية تحجب عينان في مائهما حزم ووقار. كان معلمنا يتخذ لدراجته ركنا بساحة المدرسة. و يخرج كيسا من جراب خلف دراجته به بضع فوطات وقطع الصابون لونه نبيذي بدون رائحة ومشط نتسارع لنفوز بشرف حمله – وهنا تعمدت إسقاط كلمة النارية  لأن ” عود الريح ” كان يحوله معلمنا الى مجرد دراجة عند نفاذ البنزين-. ويتجه بنا نحو فضاء ضمن ساحة مدرستنا المترامية الأطراف بعيدا عن الأصوات العالية للتلاميذ وهم يقرؤون القرآن أو محفوظة أو نصا من نصوص المطالعة، و كنا نشعر بسعادة لا تضاهيها سعادة لأننا سنستمتع بحصة تمارين رياضية.، وإن كانت تقتصر على حركات بسيطة، رفع الأيادي أو خفضها أو جري و نط لمن كان يتوفر على نعل بلاستيكي صالح لذلك. لكن ما كانت تدوم فرحتنا كثيرا، حيث ما هي إلا دقائق حتى يأمرنا معلمنا للتوجه نحو المرافق الصحية حيث الحوض الطويل ذو الحنفيات الصفراء المعدنية. و هنا العقدة الجميلة والمؤثرة لمواقف تختزنها ذاكرتي و قد مر عليها دهر، بطلها المعلم ” السيد ت ” الذي كتب لاسمه أن يظل حاضرا و أن تغيب أسماء أخرى لمعلمين  آخرون سواء من أبناء بلدي و أجانب.

كانت حصة النظافة الجماعية يبدؤها معلمنا برفعنا الى الحوض واحدا تلو الآخر في هدوء و نظام ثم يوزع علينا قطع الصابون و المشط ، و نشرع في غسل أرجلنا و أيدينا ووجوهنا و رؤوسنا، ومعلمنا يشرف بكل جد و حزم على هذه العملية جيئة و ذهابا مرددا عبارة ” حك…حك …طلق راسك ” . فكنا لا نسمع إلا أزيز أسنان المشط و الماء المنسكب واصطكاك اسناننا لبرودته التي تلسع أجسادنا وتزيدها يوما عن يوم صلابة ومناعة. و عند انتهائنا من عملية الغسل تأتي عملية التجفيف، حيث كان معلمنا يعمد الى انزال كل واحد فينا و يوزع علينا الفوطات لتجفيف أجسادنا متجهين صوب أشعة الشمس لننعم بدفئها. فكان يقوم في ختام هذه العملية بتمشيط الشعر وتصفيفه حتى نبدو في أحسن هيأة. بعدها كان يسوقنا مثني مثنى إلى القسم رقم 24 المتواجد بالطابق الأرضي ليدرسنا حصة اللغة العربية. و هنا أفتح قوس لأستدرك بأن مدرستنا كانت مكونة من طابقين، الطابق الثاني كان مخصصا للمستوى المتوسط بصنفيه الأول والثاني. بحيث كنا وقتئذ نغبط التلميذات والتلاميذ وهم يصعدون في كبرياء السلم الى الطابق الثاني المؤهل لنيل الشهادة الابتدائية و ما أدركها أنذاك. و كنا في غيبة من أنظار مدير المدرسة نتسلق بضع درجات هذا السلم المحذور علينا ، لنتذوق طعم الإحساس الذي ينعم به زملاؤنا الذين المتقدمين علينا.

و بعد فترة الاستراحة، التي كانت توزع خلالها على التلميذات و التلاميذ المنحدرين من أسر الأكثر عوزا، وجبات الفطور بالمقصف التابع للمدرسة. كنا نلج القسم رقم 24 مرة ثانية لتلقي حصة اللغة الفرنسية عن معلم أجنبي. هذا الأخير الذي كان يقف بباب القسم كجمركي يتفقد نظافة كل واحد فينا، و كنا نكافأ من لدنه بصور لأنواع العصافير التي لم أكن أعرف منها إلا القليل القليل. و التي حصدت منها الكثير و تعرفت على أسمائها بالفرنسية.

و قتها لم نكن نستوعب أن وراء هذه المكافأة التي نحصل عليها من معلم أجنبي، مبادرة من معلمنا ابن وطننا، الذي قاوم وسخنا نحن أبناء الطبقة الشعبية بوسائله البسيطة، حتى نظهر بمظهر لائق أمام الغير، و قاوم جهلنا وأدى رسالته التعليمية على أحسن وجه.  فيا فخر من تتلمذ على هذا المعلم المقاوم، و من درس بهذه المدرسة التي تحمل اسم أحد رموز المقاومة الوطنية. ألا يحق لي الآن أن أكمل عنوان مقالتي، و أقول على لسان الشاعر أحمد شوقي: ” كاد المعلم أن يكون رسولا ” ؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى