انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
اصواتهن

“أرض الأحلام”: جواز سفر إلى الذات

بقلم: مريم أبوري*

“تعبانة.. ضغطي عالي وعندي هبوط “، جملة متناقضة لخّصت الحالة النفسية التي تعيشها نرجس، الشخصية التي تجسدها سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة في فيلم “أرض الأحلام”. جملة قالتها لابنها الطبيب، الذي يؤدي دوره الفنان هشام سليم، معبّرةً عن التوتر والضياع اللذين كانت تعاني منهما تحت ضغط الاستعدادات الأخيرة لسفرٍ فُرض عليها إلى أمريكا، حيث ستلتحق بابنها. لاحقًا، ينضم إليها ابنها الطبيب وابنتها المذيعة، التي تلعب دورها الفنانة علا رامي.

ورغم نجاحهما في بلدهما، مصر، قرّرا الهجرة إلى أمريكا، لكن تحقيق حلمهما، وفقًا للقوانين الأمريكية، يستوجب سفر أمهما المتقاعدة أولًا.

تتطور أحداث الفيلم عندما تكتشف نرجس، ليلة سفرها، أنها فقدت جواز السفر والتذكرة. فتبدأ في استرجاع تفاصيل يومها على أمل أن تتذكر أين تركتهما. خلال رحلة البحث، تلتقي بساحر غريب، يؤدي دوره الفنان القدير يحيى الفخراني، وهو شخصية مستهترة، محبّة للحياة، تستمتع بكل لحظة فيها، ويجسد النقيض التام لشخصيتها التي تتسم بالرزانة والوقار والجدية. تجد نرجس نفسها مضطرة لتحمل استهتاره، وقضاء يوم وليلة معه، ليلة السفر التي تصادفت مع ليلة رأس السنة، فقط لتجد جواز السفر والتذكرة.

تعيش نرجس يومًا أمريكيًا بامتياز، رغم أنها لا تزال في مصر، مليئًا بالمغامرات التي لم تختبرها في حياتها الرتيبة والخالية من الأحلام. فقد كانت تردد دائمًا: “لم يكن لي أي حلم”، على عكس صديقاتها اللواتي كنّ جميعًا يملكن أحلامًا. تتذكر أن حلمها الوحيد كان السهر طوال الليل، كما كانت تفعل صديقاتها.

وهكذا، عاشت نرجس يومًا في “أرض الأحلام” دون أن تسافر إليها. يومٌ غريب جعلها تعيد النظر في قرار السفر، الذي أجّلته مرارًا، خوفًا منه ورفضًا له. لكنها هذه المرة تغيّر قرارها رغم عثورها على الجواز والتذكرة، فتختار أن تعيش لنفسها، لتعوض ما فاتها، وتجد حريتها في بلدها، دون أن تهاجر إلى “بلاد الحرية”، كما يقال عن أمريكا.

في المشهد الأخير من الفيلم، تقول نرجس للساحر الغريب: “مش مسافرة، واللي عاوز يسافر يسافر”. لم تعد بحاجة إلى جواز سفر إلى أمريكا، لأنها وجدت جواز سفرها إلى الحياة، وجدت ذاتها التي كانت تائهة منها.

أدّت فاتن حمامة دور نرجس ببراعة، كعادتها، مجسدةً سيدة استفاقت من روتين حياتها، دون أن تكون تدرك أصلًا أنه كان روتينًا. فهي لم تتعلم من والدتها، التي أدت دورها الفنانة الراقية أمينة رزق، حب الحياة والاستمتاع بها. لكن في تلك الليلة، ليلة رأس السنة الجديدة، حققت حلمها الصغير، وسهرت طوال الليل دون تخطيط، ومع رجل غريب علمها في ليلة واحدة ما لم تتعلمه طيلة حياتها. علمها أن السعادة لا تحتاج إلى البحث البعيد، فهي بين أيدينا، وأن الأحلام، مهما تأخرت، لا بد أن تتحقق يومًا، ما دام الإنسان يستفيق من سبات النسيان، ويتذكر حقه في الحياة.

“علينا أن نعيش لأنفسنا، حتى ونحن نعيش للآخرين. وأن نحيا أحلامنا، لا أحلام غيرنا، حتى لو كانوا أقرب الناس إلينا، حتى لو كانوا أبناءنا. وألا نكون مجرد سفينة توصل الآخرين إلى جزر أحلامهم، ثم تعود خاوية الوفاض إلى اليابسة”.

وأنا أتابع أحداث الفيلم المثيرة، شعرت بتوتر نرجس وخوفها وغضبها، رغم المحاولات اللطيفة للساحر للتخفيف من معاناتها. تذكرتُ العديد من النساء في سن نرجس، اللواتي قضين حياتهن في بلدانهن، ثم اضطررن في شيخوختهن إلى مغادرتها، مجبرات على اقتلاع جذورهن، فقط ليعشن مع أبنائهن في المهجر. هناك، يُقتلن ببطء، كسمكة أُخرجت من البحر، فتموت.

تذكرتُ “مي خدوج”، المرأة المغربية المسنّة، عندما هنّأتها ذات يوم بقدومها إلى فرنسا للعيش مع ابنتها، فردّت عليّ والدموع تلمع في عينيها:

“يا بنتي، أي حياة هذه التي لا جارات فيها، لا أحباب؟ أي حياة هذه التي لا تحمل رائحة البلاد؟”

ثم صمتت، وقد اغرورقت عيناها، كزهرة اقتُلعت من بستانها، وزُرعت في أجمل مزهرية، لكنها تعلم أنها ستذبل قريبًا، قبل الأوان.

قلّة من النساء، من الأمهات والجدات، يملكن الشجاعة، أو القدرة، ليكنّ مثل نرجس، فيرفضن اقتلاعهن من أرضهن، من “أرض أحلامهن”. لكن هذا حديث ذو شجون، سأعود إليه في مقال آخر.

ويبقى فيلم “أرض الأحلام”، الذي أُنتج عام 1993، من إخراج داوود عبد السيد، أحد أجمل أفلام سيدة الشاشة العربية، والفنان يحيى الفخراني. شاهدته أكثر من مرة، وفي كل مرة أستمتع به كأنني أشاهده للمرة الأولى، وأكتشف فيه رسائل جديدة.

ومن أهم هذه الرسائل:

“علينا أحيانًا أن نكون أنانيين، كي لا نُقتلع من جذورنا. ألا نسمح لأنانية الآخرين بابتلاع نكهة حياتنا، ونحن نحقق أحلامنا، مهما كانت صغيرة، ومهما بلغنا من العمر أرذله. بل، بالأحرى، أحلى العمر. فكل مرحلة من حياتنا جميلة، وتستحق أن نعيشها كما نريد”.

*كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا