“سألوني الناس”.. غاب عاصي وبكت فيروز!

قبل أن تصبح “سألوني الناس” واحدة من أشهر أغاني الحب والفقد، كانت رسالة من فيروز إلى عاصي الرحباني، زوجها ورفيق مسيرتها، وهو يرقد في المستشفى. هذه الأغنية تحوّلت إلى أسطورة، وعنوان قصة حبّ تروى.
قد تكفي أحياناً أغنية واحدة لتحكي قصة حب، فكيف إذا كانت هذه الأغنية هي “سألوني الناس” بصوت السيدة فيروز، ووراءها قصة حبّ تستحق أن تُروى؟
منذ أكثر من أربعين عاماً، صارت هذه الأغنية نشيداً للمحبين في الفقد، ورسالة لكل من عرف معنى الغياب. لكنها، قبل ذلك وبعده، تختصر علاقة فريدة جمعت بين فيروز وزوجها ورفيق دربها، عاصي الرحباني.
بدأت حكاية الأغنية، عام 1972، وكانت فيروز تتحضّر لأداء دورها في مسرحية “المحطة”، حين تعرّض عاصي لنزيف في الدماغ استدعى نقله إلى المستشفى بشكل طارئ. تغيّب عاصي عن البروفات والعروض، ولأول مرة، لم يكن جالساً خلف الكواليس، ولا حاضراً يتابع كالعادة تفاصيل المسرحية، هو الذي لم يكن يغيب لحظة واحدة في مسيرة فيروز الفنية.
في لحظة إنسانية نادرة، كتب شقيقه منصور كلمات الأغنية كأنها على لسان فيروز إلى زوجها المريض، فُولدت من بين الألم واللهفة:
“سألوني الناس عنك يا حبيبي…
كتبوا المكاتيب وأخذها الهوى…
بيعزّ عليي غني يا حبيبي…
لأول مرة ما منكون سوا.”
جاء لحن الأغنية من قلب بيت الرحابنة نفسه، من زياد، ابن عاصي وفيروز، وكان في السابعة عشرة من عمره فقط. أما التوزيع فكان بتوقيع إلياس الرحباني.
غنّت فيروز الأغنية على المسرح، والجمهور لم يكن يعلم أن الأغنية ليست مجرد كلمات، بل رسالة حيّة من قلب موجوع، وحبّ لا يشيخ.
غير أن عاصي، حين تعافى وسمع الأغنية، لم يستقبلها بامتنان، بل غضب منها، واعتبرها استغلالاً لمرضه. حتى إنه فكّر في إيقاف عرض المسرحية. لكن الجمهور كان قد أحب الأغنية وارتبط بها، ونجاحها الساحق جعله يتراجع عن قراره.
تمرّ السنوات، وتبقى “سألوني الناس” حاضرة، تماماً كما بقيت فيروز إلى جوار عاصي، في المرض كما في الصحة، في الصعود كما في الألم، إلى حين غاب عاصي إلى الأبد…
عندما توفي عاصي عام 1986، بدا أن الحب لم يمت رغم كل شيء. وقوف فيروز إلى جانب نعشه، بانكسارها، ودمعتها المختبئة خلف نظارات سوداء، كان مشهداً موجعاً. لم تقل كلمة، لكنها غنّت “رجعت الشتوية”… وكأنها تعترف أن كل شيء انتهى، وأن الشتاء عاد بقسوته.
لم تستطع فيروز أن تخفي دموعها وهي تؤدي “سألوني الناس” مجدداً، غنّت كما لو كانت تهمس في أذنه، وبكت أمام الآلاف.
سألوني الناس عنك يا حبيبي”، كانت تردد، وكان الجواب في الدموع.
لم تعد “سألوني الناس” مجرد أغنية، بل كانت وثيقة حبّ. ومن يفتّش عن قصة فيروز وعاصي، سيجدها هناك، بين سطر وسطر، ونغمة ونغمة. علاقة حبّ معقدة، لم تكن مشروعاً فنياً ناجحاً فقط، بل حياة كاملة، بكل ما فيها من وهج ووجع.
كانت رحلة عاطفية جمعت بين الحب والإبداع، بين الهيمنة والصمت، بين الارتباط الوثيق والانفصال الموجع.
حين التقى عاصي بالفتاة الشابة ذات الصوت المميز، لم يكن فقط معجباً بموهبتها، بل كان يرى فيها صوت المستقبل. كان يريد أن يسجّلها في عالمه الخاص، عالمٍ يعجّ بالفن، لكنه مشبع أيضاً بتوقعاته ورغباته. أحبّها كما هي، لكنها كانت بالنسبة له أكثر من مجرد مغنية، كانت مشروعاً فنياً يسعى إلى إبرازِه وتطويره.
لكن، مع مرور السنوات، بدأ التوتر يظهر في العلاقة. فيروز، بتواضعها وصمتها، لم تكن دائماً مرتاحة لهذا التحكم أو لهذا الارتباط الخانق. لم تكن قادرة على أن تكون “الصوت فقط” في هذا الزمان الذي بدأ يشهد تغييرات فنية كبرى. كانت شراكة معقدة، فيها حبٌّ جارف وألمٌ عميق، لكنها تظل في النهاية علاقة بين شخصين جمعهما الإبداع، ثم فرّقهما التباين في رؤيتهما للحياة والفن.
في عام 1979، وقع الانفصال الفني بين فيروز والأخوين رحباني. اختارت فيروز أن تعمل مع ابنها زياد، وبدأت مرحلة جديدة أكثر جرأة وتحديثًا موسيقيًا، بينما شعر عاصي بالخذلان. لم يُعلَن رسميًا عن الطلاق، لكن العلاقة الزوجية انتهت بصمت. احتفظت فيروز بمكانته في قلبها، حتى بعد رحيله.
وعلى الرغم من الانفصال الفني الذي حدث في أواخر السبعينيات، ظلّ بين فيروز وعاصي خيط غير مرئي. انفصلا عاطفياً قبل أن يتفرقا فنياً، لكن هذا لا يعني أن الحب بينهما قد انتهى. في النهاية، بقيت فيروز في عالمها، مستقلة، تستكمل مشوارها الفني مع ابنها زياد، بينما ظل عاصي في صمت، يقاوم المرض، ويعيش أيامه الأخيرة، لكن عندما مات عاصي الرحباني عام 1986، كان الحب بينهما أقوى من أي انفصال. لم تصرّح فيروز عن مشاعرها، لكنها عبّرت عن فقدها بالغناء، في واحدة من أكثر لحظات الحزن والحنين في تاريخ الفن العربي حين غنت: “رجعت الشتوية”.”.
ذلك المشهد لم يكن فقط وداعاً لشريك، بل كان تأكيداً على أن العلاقة لم تنتهِ بكلمة، بل بهدوء وصمت شديدين. لم يكن في مقدور فيروز أن تضع نهاية لهذه القصة، لأنها لم تكن مجرد علاقة عاطفية، بل كانت رحلة فنية وحياة مشتركة، وجدت نهايتها في الصمت.
في جنازته، غنّت فيروز بصوت مرتجف “رجعت الشتوية”، ورافقت جثمانه بصمت ثقيل. وكان مشهدها في الجنازة كافيًا ليقول كل شيء عن الحب، والفقد، والوفاء…