
بقلم: عبد الرفيع حمضي
“أتاي “هذا اليوم المشمس لم أتناوله بمقهى” osteria Gobin” ببلدية (مومو ) الجميلة الواقعة على بعد 90 كلمتر شمال شرق تورينو بإيطاليا، ولكن أتذوقه بدون سكّر في دفئ اسري بالعاصمة المغربية الرباط أطلق عليها مدينة الأنوار .وهي الان بالفعل كذلك، وان بدت خلال أيام العيد مهجورة بعدما يعود كل الأفاقين إلى قواعد انطلاقهم بمدن وقرى جغرافية الوطن الممتدة.
وبقدر ما تصبح حركة السير سلسة ومريحة بقدر ما ينتابك الخوف من عودة أجواء كوفيد 19 – حيث لا طير يطير ولا وحش يسير على حد تعبير الراوي، سي أحمد الأزلية منشط (الحَلْقة) بساحة الاستقلال بدار الضمانة في السبعينات والثمانينات-
كوفيد اللعين اغلق على الكبار منازلهم. لكن الاطفال حجزهم بغرفهم، لتظل عيونهم على شاشات الألعاب الرقمية والإلكترونية، الواحدة تلو الأخرى، حتى انتشرت لعبة “التحدي مومو ” Momo challenge دمية بوجه فتاة صغيرة جاحظة العينين بدون حواجب ،على جسد دجاجة. والتي ابتكرها الياباني كي سو كي إيزو، ولم تعرف أي إقبال عليها أو نجاح في البداية، قبل أن تنتشر بقوة أيام الجائحة ليصاب الآباء والأمهات في العالم كله بالهلع. فتدخلت الحكومات والسلطات والمؤسسات التربوية للنصح والطمأنة احيانا، والتنبيه والمنع أحيانا أخرى، أو العقاب والزجر، لكل مروج لهذه اللعبة الغريبة. وبالأخص عندما جرى تسريب مقاطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي لوجه الدمية “مومو” وهي تهدد عبر الواتساب الأطفال بالموت أحيانا، وتتنبأ لهم بالموت أحيانا أخرى، إذا لم يجيبوا على أسئلتها في لعبة التحدي. فشاعت أخبار بانتحار طفلة بهذا البلد، وموت آخر بتلك القارة ..ليكتشف العالم فيما بعد ،أن نشر هذا الهلع وتضخيمه هو من أجل مصالح تجارية صرفة للوسطاء، و الشركات المهرولة وراء ربح سريع لم يستفد منه حتى مبتكر اللعبة نفسه الذي علق على الأمر قائلا (أشعر وكأني في ورطة كل ذلك ليس بإرادتي، فلا تخافوا أيها الأطفال فإن “مومو” قد ماتت.)
فما بين “مومو “البلدة الجميلة ومومو الدمية المرعبة، دعونا نتحدث على واقعة المنشط الإذاعي المغربي الذي اختار اسماً فنيا داع بشكل كبير وسط الشباب والأطفال “مومو “. ودون الخوض في تفاصيل القضية خاصة وأن سي محمد بوصفيحة لا زال الحكم عليه ابتدائيا وليس نهائيا وبالتالي فهو يتمتع بقرينة البراءة إلى أن يصبح الحكم حائزا لقوة الشيء المقضي به، بعد استنفاذ كل درجات التقاضي وطرق الطعن القضائية. فإلى ذلك الحين نقول (الله يخفف ما نزل والله يفك وحايلو ).. لكن هذه الواقعة هي مناسبة فقط لمتتبعي القنوات الإذاعية الخاصة، والتي أصبح عددها يفوق اثنى عشرة 12 إذاعة ببلادنا, منها الإخبارية والترفيهية والرياضية والتي مر على إطلاقها 18 سنة ابتداء من سنة 2006 بعدما كان كل القطاع محصورا في الإذاعات العمومية. وبالتالي أصبح تقييم هذه التجربة من جميع الجوانب يفرض نفسه بإلحاح. أين توفقنا؟ وأين أخفقنا؟ فالعودة إلى الخلف مستحيلة وليس هناك من الخيار إلا النجاح .
فبقدر ما يجمع المهنيين والمهتمين والمواطنين أن هذه التجربة، قد وسعت من فضاء التعبير ببلادنا وساهمت في تجويد المنتوج الإعلامي العمومي والخاص وتنويعه. كما أنها تجربة افرزت عددا من الوجوه الجديدة ومن الفاعلين الإعلاميين بمستوى رفيع وجيد. إضافة إلى فتح مجال الاستثمار في الحقل الإعلامي والمعرفي .لكن في نفس الوقت يعتبر عددا من الملاحظين أن تجاوزات بعض الإذاعات الخاصة لم تعد هفوات أو استثناء، بل أصبحت تقدّم الميكروفون لمن هب ودب، لنشر التخلف والانغلاق والتزمت والفتاوى الشاذة والتنمر على العباد والسقوط المستمر في التمييز والاقتراب من الكراهية مع تقديم النصائح في كل شيء بدو ن حذر علمي، مستغلة الإذاعة كوسيلة إعلامية مؤثرة، ما كان لها أن تُفتح لهم لولا الإيمان بالديمقراطية والحرية والتعدد كخيار استراتيجي ببلادنا عمل من أجله المغاربة منذ الاستقلال وتوافق عليه المجتمع المغربي بمكوناته ومؤسساته .كما أصبح البعض بدعوى الترفيه (والجمهور عايز كده) لا يتردد في البث كل الحماقات الممكنة والغير الممكنة وذلك لاستقطاب المستمعين وتقديمهم جملة وبدون تقسيط قربانا للمستشهرين.
صحيح جدا أن بعض الإذاعات قد توفقت في اختيار صحافيها وأطرها، مما انعكس ايجابا على صورة برامجها وأغنت بذلك الساحة الإعلامية بمنتوج مهني متميز، يساهم في التثقيف العام وفي المشروع التنموي لبلادنا . ويحقق ايضا ارباحا مشروعة ومستحقة.
مع وجود الفارق والوعي به، أتذكر في أواخر الثمانينات كنت قريبا من الطاقم الصحفي والتقني لإذاعة طنجة، من خلال الصديق الصحفي المتميز والشاعر الجميل الدكتور سعيد كوبريت، فكنت من حين لآخر أتابع الإعداد التقني والأدبي للبرامج الإذاعية وبثها إما مباشرة أو مسجلة، كما أنني -بالهاتف الثابت طبعا – انجزت عدة مراسلات صوتية للإذاعة، من نقط خارجية لتغطية أنشطة متنوعة من وزان والرباط والبيضاء …وبكل مخيمات حركة الطفولة الشعبية، خاصة بالأطلس المتوسط بعين “خرزوزة” و “تيومللين”.
وفي كل مرة كنت اكتشف واقف على جدية العاملين وحرصهم على الدقة والمسؤولية وتشبثهم بالقيم والأخلاق المهنية في كل يقدمونه -حتى قبل المجلس الوطني للصحافة وميثاقه – سواء في الثقافة، أو الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الترفيهية، حيث كان الفريق الإعلامي بقيادة المرحوم خالد مشبال، يباشر مواضيع لم يكن من السهل الاقتراب منها حين ذاك. لكن بكومندو متميز، أمينة السوسي، زهور الغزاوي، فاطمة عيسى، عبد اللطيف بن يحيى، سعيد كبريت خليل الدامون، رشيد بنرحو ..إلخ وبإمكانيات تقنية ومادية محدودة، استطاعت هذه الإذاعة أن تبصم في العمق الفضاء السمعي المغربي.
فهؤلاء وغيرهم كثير، سواء بالإذاعة الوطنية والإذاعات الجهوية الأخرى، كانوا يعتزون بصفتهم المهنية الصحفية ويدافعون عليها بقوة ولا يقبلون بدونها. اما الاشتهار والمستشهرين والماركتينغ فتلك مهن أخرى لها نسائها ورجالها .
يتذكر المرحوم عبد الرحمان عشور في كتابه “رجل سلطة بالإذاعة ” أنه في شهر أبريل من سنة 1996 وصف وزير الإعلام آنذاك العلوي المدغري خلال إحدى ندواته الصحفية صحافي الإذاعة بالموظفين، فانفجرت في وجهه النقابة الوطنية للصحافة لتذكّره بصفتهم المهنية كصحفيات وصحفيين أولا واخيراً.