بسمة نسائية/ ممنوع على النسا
بقلم: عزيز لمسيح
بحثت عنه في كل ركن، قلبت محتويات حقيبة السفر رأسا على عقب..كل ركن من أركان غرفة الفندق الذي أنزل به عادة كلما حللت بإحدى المدن الأطلسية….رباه! أين اختفى، بلعته الأرض فجأة من دون إنذار مسبق أو حادث مرافق….
شعرت بتمزق، بفقدان مفاجئ، بجسدي ينسحب مني… بذاتي تتشظى فِيً….لا أعرف سر كل هذا الحزن الذي أغرقني كليا وأذاب روحي وجسدي معا…..كيف تحولت في بضع ثواني من كائن طبيعي إلى هوة سحيقة من الخسران….من حالة أُنس وبهجة إلى بحر لجي من الألم والشجن….رغبت في البكاء….بل بكيت في صمت….
قبل قليل كان يحوط عنقي، يمنحني الدفئ والحنان والامتلاء..كل مفردات الضياع لا تفي بنقل حالة تلاطم مشاعري المتشوقة إليه، ولا تستطيع كلمة وصف اختصام جيوش الشوق عليه…..
أكاد لا أصدق هذا الذي حدث لي….! كأنني أضعت بعضي بل كلي…..! ضياع بحجم خسارة العالم…!
كيف يقذف بي هذا الكشكول الصوفي المزدهي باللونين الأحمر الفتان والأسود البهيج…إلى فوهة فاغرة وشعور فادح بالاغتراب والفقدان….؟!
كيف حولتني كتلة صوفية إلى جمرة التياع وتشوق.. وإحساس باليتم، كأنني فقدت حبيبا كنت أعشقه، بل أحيا به وله…؟!!! هل من المعقول أن يعصف بي ضياع كاشكول ويطيح بي الى هذا الحد من الانقصاف…؟
كم تلهفت عليه، ويداي تقلبان بحيرة وحسرة وهلع بطن حقيبتي التي أصبحت مقبرة تسرق حلمي، وأنا كلي يقين وضلال في نفس الٱن…كم ابتهلت كي يظهر فجأة من بين كومة ملابس وقد صارت أكفانا من دونه….!
كان أملي الأخير أن أراه للمرة الأخيرة وبعدها يختفي…أن يمنحني فرصة وحيدة: أن أتلمس روحه وأتحسس ملمسه وأتشمم طاقته النورانية…!!!!
كان معي ولي وفيّ قبل قليل، وأنا أنزل من حافلة سفر بعيد، يحوط عنقي، يطوق رقبتي، وقد بدا منثنيا على هيئة كرفاته تتوسط أعلى معطفي الصوفي الطويل…وها أنذا من دونه وقد صرت قاعا صفصفا….!
لا أدري لما فجأة تذكرت الكشكول الذي كان يلف به أستاذ الفرنسية سي البوزيدي عنقه بانثيال على جانبي معطفه الجلدي الذهبي…كيف كان يبدو أميرا ساحرا وهو ينشد أغاني جاك بريل، بلوعة وشجن…
وتذكرت حصصه الصباحية المخصصة لرواية “الأحمر والأسود” لستندال….تلك الحكاية التي تصور كيف يسمو الحب ويتعالى على الطبقية، كيف أطاح العاشق المعدم جوليان سورين، الحالم بمجد نابليوني ملحمي، بقلب مادام دو رينال زوجة الحاكم …..المتلهفة للمختلف والجمالي الخالد، بديلا عن زيف حياة القصور وخوائها …
كيف ينتصر الحب المشع بأنوار الفكر على الأرستقراطية المطوقة بالغباء والضحالة والتفاهة…
كان البوزيدي عاشقا نابوليونيا هو الٱخر…، بل إنه سيستلهم حكاية بطل رواية ستاندال حين قاده قدره الأعمى ليعشق ماجدولين، الماسة الفاسية الشقراء ذات العينين النجلاوتين، البضة المغناج…التي كان يلهج بفتنتها القاصي و الداني وكل من رٱها وقد أشع نورها بأرجاء مؤسسة ابن البناء….
ماجدولين، التي كانت حين تتبسم تزهر الحياة أزهى ما فيها…وتهفو إليها الأرواح حين تخرج الكلمات دررا من بين شفتيها المكتنزتين كشفتي مارلين مونرو، سقطت صريعة حب فتى أمازيغي ابن أحد أكبر إقطاعيي منطقة إفران….
الفتى الذي كان دونجوان المؤسسة بسبب جماله الفتان، سيكون هدفا لعدوانية الأستاذ المتواصلة ومقته المتفاقم….لدرجة طرده المتكرر من حصص الفرنسية لأسباب واهية ومختلقة، خصوصا بعدما اكتشف تعلق ماجدولين به…..!
لم تشفع للبوزيدي محاولاته المتكررة لكسب قلب ماجدولين المتولهة بالفتى الأطلسي….ولا النقاط والمعدلات العالية التي كان يجزيها لها ، ولا حتى المرات الكثيرة التي اصطحبته فيها رفقة عدد من التلاميذ لمشاهدة أفلام رومانسية يحرص على انتقائها ومناقشتها خلال عروض مخصصة لهذا الغرض تلذذا وتوددا ووصالا للحسناء الفاتنة ….بل وصل به الجنون في إحدى المرات الى تمثيل مشهد لأولى القبل التي سيسرقها جوليان سوريل من مادام دورينال، قابلتها الصبية المشتهاة بتقزز وتبرم وفتور جلي على محياها…
نهاية الحكاية ستكون صادمة للأستاذ المسكين، عجلت بانهياره التام: طرد فاضح للعاشق الولهان الذي تقدم لخطبة اللؤلؤة النادرة من دون تقدير للموقف، رافقته عبارات السب والاستهجان والتحقير من قبل أسرتها ، التي لم تتقبل إطلاقا هذا التطاول على هيبتها الأرستقراطية ووضعيتها الطبقية والاعتبارية، من قبل ” حثة” أستاذ اعتقد واهما أنه يشبه بطل روايته البعيدة عن “الواقع”…!
كاشكول ماجدولين كان مشعا بالضياء، يفتر عن ثغر باسم بطبيعته…كاشكول صقيل مشتهى، مزدان بخيوط متناسقة بالأحمر والأسود….!!
كاشكولي الذي أضعته هو كاشكول زينب..، الحريري الملمس الذي كانت تزين به جيدها المليح كمهرة منخطفة ولوع وقد تداخلت ألوانه بأحمرار وجنتيها وسواد معطفها الباذخ، وخصلات شعرها منسدلة على كتفيها وبعضها الٱخر على جنبات مرمرها المياس…..السيدة الحاملة لأسرار أنوثة حارقة …ومشاعر دافقة خبيئة..!!
الفرح الغامر الفياض ، الذي اجتاحني وأنا أرى كاشكولي من جديد وهو يطل علي من الثنيات والجيوب المشبكة الداخلية للحقيبة، فاض عني بشكل لا يوصف…..أعاد لي كينونتي المفقودة….!!!
الٱن أدركت لماذا حصل كل ذلك….!
لم يكن الكاشكول ما أضعته واسترجعته أخيرا، بل رائحة وروح وذكرى زينب وماجدولين، وقبلهما مادام دو رينال……!!!!!
ما أضعته واسترجعته للتو بهاءَ أن تعيش بجمالية متساميا عن الوضاعة والانحطاط اللذان أصبحا يطوقان معيشنا اليومي، متعاليا عن القرف والابتذال اللذان صرنا إليهما منقاذين كالخرفان