في أول يوم لي بالمدرسة لم أصرخ، لم أنتحب ولم أغني ظلموني، بل ذهبت بكامل تأهبي للقسم الذي لم أكن مسجلة فيه رسميا، لأن عمري لم يكن يتجاوز الخمس سنوات. كنت ألبس فستانا سماويا بشرائط دانتيل بيضاء وفرحة جدا لأني لن أذهب للمسيد. وجدت سي عبد الكريم بنحدو هناك، استقبلني استقبال ضيوف الشرف.. ركضت كثيرا في القسم الذي كان مكتظا بتلاميذ كبار..كبار لدرجة مربكة. قفزت كثيرا داخل وخارج القسم، ورقصت فوق الطاولة فالمعلم صديق أبي رحمه الله والأجواء كانت احتفالية للغاية. سلمني سي عبد الكريم بعدها زمام القسم وأصبحت أحرسه في غيابه. قضيت سنة في منتهى الحريّة لم أدري كيف تعلمت فيها القراءة والكتابة ولو أن تجارب المسيد كانت كثيرة قبل ذلك. حين تولد بحي الشريعة، تحيط بك المساجد من كل الجهات تجد نفسك كل يوم في مسيد جديد مع فقيه جديد لا لشيء إلا لأنهم يريدون التخلص منك.
في المسيد طورنا هوايات كثيرة لتجزية الوقت في نهارات الصيف الطويلة، كان أهمها هواية صيد الذباب الكثيرة التي كنا نتفنن فيها. في المسيد كنا نذهب باللباس العادي والصناديل البلاستيكية لأن المسيد قريب من المنزل ولا يمكنك أن تجازف بأخذ حذاء إلى هناك. لم تكن الأمهات تحرصن على أناقتنا في المسيد كما كنّ يفعلن مع المدرسة ربما لذلك لم أستوعب أدوار المدرسة في تلك الفترة و اعتبرتها منذ الوهلة الأولى فضاء للترفيه. المسألة مبررة لأن أول من يستقبلك في مدرسة علال بن عبد الله هو المرحوم مصطفى الدغاي. رجل جدا أنيق، مهووس بالنظافة والغناء. كلما صادفته في الساحة إلا ووجدته يدندن موشحات أندلسية. لم يكن الغناء وقتها “بوكو حرام”، بالعكس كان الناس يغنون في كل المناسبات يجتمعون على كؤوس الشاي والفطاير ويغنون ، يقومون بأشغالهم اليومية ويغنون ويحيون بالترانيم. .كنت أغني، بصوتي المبحوح أغني بالراء التي كنت أنطقها غاء كالكثير من “قصغاوة”.. كان حلم أمي أن أكون مغنية كنعيمة سميح التي كانت رائعتها” ياك أجرجي” على كل لسان أنداك. في حينا كان الجميع يغني.. محمد الشلح في الحوانيت يغني، المرحوم الوهراني في محله بالسويقة يغني. في المرس حيت تجتمع كل الفرق الموسيقية عارضة آلاتها المختلفة على المارة كمتحف موسيقى بسماء مفتوحة. وفي المعهد البلدي كانت أصوات البيانو وكل الآلات الأخرى تسمع بالخارج. مدينة كورال تدبر تعددية أصواتها بحنكة كبيرة.
غنيت كثيرا في السنة الأولى وأنا مستمعة، بعدها سأتجرأ وألحن النشيد في المتوسط الأول بمناسبة عيد العرش التي كنت على لائحة المشاركين في الإعدادات لها. الاستعدادات كانت تسبق الحدث بشهرين على الأقل تصبح فيها المؤسسة شبيهة بالمرس بنادير وتعارج في كل مكان وتستمر بعدها نشوة ترديد الأغاني والأناشيد ولا تسمع إلا أغاني فلسطين وبلاد العرب أوطاني. في مثل هذه الأجواء لا يمكنك إلا أن تكون عاشقا للفن حتى وإن كان صوتك مشروخا وغير صالح للغناء، حتى وإن كنت تنطق الراء غاء. حتى وإن غيروا رأيهم بعد ذلك وادعوا أن الغناء حرام. هذه النوستالجيا تلاحقني كل سنة وأكون مضطرة معها لاقتناء دفتر غلافه مزركش بألوان فاقعة.