انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
ثقافة وفنون

زهرة رشاد تُضيء عوالم “الخال ميلاد” في جلسة الربوة

“كما وعدنا قراءنا الأعزاء، نعود إلى الجلسة الأخيرة لصالون الربوة، التي نُظِّمت يوم السبت 24 ماي 2025، لنقدّم قراءة الأستاذة زهرة رشاد في رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” للروائي محمد النعّاس، الحائز على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لسنة 2022.”

كل تحايا المحبة والشوق للربوة، ولسيدتها وأستاذتها خديجة شاكر ولنسائها الجميلات قلبًا وقالبًا وفكرًا وتواصلاً. شكرًا للجميع على هذا الحضور البهيّ المُشع حيث تتناظر أرواحنا في هذا الفضاء الذي تزداد حميميته بامتداد الزمان والسنوات، فقد ألفنا التلاقي بين أحضانه متم كل شهر، وتعلَّقنا برائحة هذا المكان بكل تفاصيل مكوناته وألوانه ونباتاته وساعاته… ولا يسعني إلا أن نهنئ أنفسنا باستعادة خديجة شاكر لحيويتها ونشاطها المعهود إثر الوعكة الصحية التي ألمّت بها. فغابت عن أنظارنا، ولم تغب قط عن قلوبنا وذاكراتنا، فعادت الربوة إلى رونقها ويناعتها. وها نحن اليوم تتيح لنا الربوة الرحيمة والرحيبة قدرًا كبيرًا من المتعة الثقافية، واللقاح المعرفي الخالص الذي طالما حلمنا به وتشوقنا إلى تحقيقه. اليوم سنحاول استقطاب نقاط الضوء، ضوء الأدب والرواية، وتحديدًا استكمال الانفتاح على مشهد جائزة البوكر لسنة 2022 بعد أن غيَّبها شبح كورونا المُرعب. سنحتفي اليوم باسم أضاء المشهد الروائي العربي بعد حصوله على جائزة “البوكر”، إنه الأديب محمد النعاس، أصغر الفائزين بهذه الجائزة القيمة.

محمد النعاس روائي ليبي، ولد سنة 1991 بمدينة “تاجوراء”، مهندس كهربائي، ولكنه انجذب إلى عالم الكتابة. بدأ بكتابة القصة القصيرة والمقالة الساخرة، ومارس الصحافة في المنتديات والمدونات الإلكترونية. نشر إلكترونيًا رواية “إنسان” وهي مقتبسة عن مذكرات خاصة لأحد جنود القذافي.

تُعتبر سنة 2020، زمن الحجر الصحي لكورونا، بمثابة انطلاقة شرارة الكتابة الإبداعية لدى الروائي محمد النعاس. في هذه السنة كتب روايته الأولى: “خبز على طاولة الخال ميلاد” والتي فازت بجائزة “البوكر” سنة 2022. كتابة الروائي محمد النعاس “محاولة لتجديد مستمر، لتأكيد ذاته”. حاول الكاتب من خلالها تشريح مجتمعه المنغلق بقرية بئر حسين التي انتقل إليها من المدينة وهو مراهق في سن الرابعة عشرة. أول ما أثارني في رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” هو زمن القراءة، لأنني حاولت استعادة زمن المؤلف لأعطيه معاني أخرى، فكأن الكاتب أصبح صوته خافتًا كالميت، وجعلت صوتي يعلو كما يقول رولان بارت: “بموت المؤلف وميلاد القارئ”. ووحدها القراءة واستعادتها جعلتني أحب هذه الرواية وأنغمر في تفاصيلها المتشابكة، رغم ما أثارته من جدل واسع بين من أيّدوا حصولها على جائزة البوكر وبين من اعتبرها لا تستحق، لدرجة أن بعض الأصوات دعت إلى عدم قراءتها أصلاً، ناهيك عن منعها كما قيل من التداول في ليبيا.

لقد تمكّنت رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” من الحصول على جائزة البوكر لجدة موضوعها والقضية المثارة والمتمثلة في مسألة الذكورة والأنوثة، بالإضافة إلى انطلاق الرواية من المحلية، من قرية بئر حسين، لتتميز على الروايات الست في القائمة القصيرة باعتبارها رواية ثقافية تحكي عن وقائع وخصائص أنثروبولوجية لا تتعلق بالحيز المكاني (ليبيا وتحديدًا القرية)، وإنما تتعلق بخصائص الشعوب العربية، طبعًا مع وجود اختلافات.

تتضمن رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” ستة فصول:

* الفصل الأول: عنوانه “المخبز”.

* الفصل الثاني: “العسكر”.

* الفصل الثالث: “دار غزالة”.

* الفصل الرابع: “بيت العائلة”.

* الفصل الخامس: “البراكة”.

* الفصل السادس: “المطبخ”.

أول ما استوقفني في هذه الرواية عنوانها رغم طوله، فقد اختاره المؤلف بذكاء؛ لأن الخبز مرادف للحياة بما أنه مُرسَّخ في وجدان ووجود الإنسان. وعلاقة الخبز بالحياة على درجة كبيرة من العمق جعلت البدائيين ينسجون حوله أسطورة تشبيه العجين برحم المرأة الحامل الذي يكبر مع مرور الأيام والشهور ليعطي الحياة لكائن جديد، وهذا يشبه إلى حد كبير قطعة العجين التي تنتفخ بالخميرة إلى أن تصبح جاهزة للخَبز وتؤكل. الخبز أساسي في الرواية متعالق مع بنيتها السردية من أول فصل “المخبز” إلى آخر فصل وهو “المطبخ”. وقد ركّز الكاتب محمد النعاس على تيمة الخبز وصناعته في بناء عالمه التخييلي والتواصلي من ثَمَّ مع قارئه والتأثير فيه من خلال قيمة الخبز ورمزيته. جاءت كلمة “خبز” نكرة دالة على كون الخبز أنواعًا وأشكالًا واختلافًا في المكونات: خبز الشباتا – المحوّر، خبز التنور، الكرواسان، البيتزا، وكل نوع يعود إلى ثقافة معينة: الخبز الإيطالي – الخبز المصري – الفرنسي – الصقيلي – الليبي. وأهمية صناعة الخبز ترمز إلى الكثير من مظاهر الحياة الإنسانية حسب ما يقول الراوي على لسان ميلاد: “الخبز في مرحلة العجين كائن حي مثلنا يتنفس ويتحرك”. انتهى كلام ميلاد.

وحين تتمازج مكونات الخبز: الدقيق، الخميرة، الماء، الملح، الحب، الهواء والوقت، تتفاعل مجتمعة، يمنح الخباز خبزًا مثاليًا مثل الشخصيات البشرية ونسبة نجاحها أو فشلها في تجاربها الحياتية.

الكلمة الثانية في العنوان: هي “على”، حرف جر من حروف المعاني، وتفيد هنا معنى الاستعلاء الحسي لا المجازي (أي العلو الحقيقي): ما على الطاولة وما حولها.

الكلمة الثالثة في العنوان: “طاولة” اسم مشتق من الطول والامتداد، وهناك من يقول بأن أصلها لاتيني: جسم مستطيل من الخشب ونحوه، تحمله أربعة أرجل متساوية الطول. الطاولة هي المكان المفضل لدى ميلاد لصناعة الخبز وتتحلق حولها العائلة، وبالتالي تشكل معادلا لمفهوم العائلة. والطاولة نفسها مستقر لممارسة الجنس، يقول الراوي: “لم ألمس زينبتها ولم تلمس ميلادي، كنا نستمتع بذكاء اللحظة فوق مصطبة العمل، والدقيق يلفنا ضاحكين”. على الطاولة التي غطّاها الدقيق، ص 351، والمقصود اللقاء الجنسي بين ميلاد والمدام مريم.

الكلمة الرابعة في العنوان: هي “الخال”. تساءلت لِمَ لَمْ يكن “العم” محل الخال، فكان الجواب في مستهل الفصل الأول “المخبز”، وتحديدًا في المقولة الشعبية الليبية: “عيلة وخالها ميلاد”. ولأن الخال يُحيلنا على ما كان يُعرف في المجتمعات الأمومية التي مارست فيها النساء السلطة ويسود فيها النسب الأمومي، وينتقل النسب عن طريق النساء، ويخضع الأطفال لسلطة الخال.

الكلمة الخامسة: “ميلاد” يقال هو اسم فارسي عادة ما يُطلق على الذكر وخاصة عند الأقباط، وهو يُطلق على الذكر والأنثى، وفي ذلك تهجين، أي أن المُسمى به يكون ذكرًا، غير أن له تصرفات الأنثى والعكس صحيح، وهذا ما تؤكده الصورة. وقد رأى رولان بارت أن العناوين هي: “أنظمة دلالية سيميولوجية تحمل في طياتها قيمًا أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية”، وهذا ما لاحظته من كون العنوان هو مفتاح النص والجوهر الذي ترتبط به البنى السردية، بل وتدور حوله الأحداث وتتساوق لتجسد لنا صورة المجتمع وثقافته.

صورة الغلاف تشكل مُحيطًا فنيًا لا يقل أهمية عن المتن السردي في إبراز البعد الدلالي للرواية، فهي تكاد توازي من حيث القيمة البلاغية والإبلاغية قيمة “المتن نفسه”. وكما يقول المفكر والناقد عبد الفتاح كيليطو: “إن الصورة من شأنها أن تضيف شيئًا إلى النص”.

شخصية “ميلاد” تكاد تطل علينا من صورة الغلاف كاشفة إياه. غلاف تطغى عليه صورة شخصية لميلاد بألوانه حيث تتراوح ما بين الأصفر الفاتح والغامق، يرتدي قميصًا صيفيًا مزينًا بالورود، وفي يديه رغيف خبز إيطالي عليه توقيعه بمشرط حاد عبارة عن أربعة خطوط، يمسكه بكلتا يديه النحيلتين وأصابعه الرقيقة دلالة على صلة ميلاد الوثيقة برغيف الخبز وعشقه لصناعة الخبز. وميلاد كما يبدو في صورة الغلاف، وكما جاء على لسان الراوي: “كنت أزيل شاربي وأتبع موضة الشباب في جعل شعري “بانكس” (المُلَمَّع بزيت الزيتون)، نَحُفت أكثر وصرت أطول، اعتدت أن أرتدي الجينز والقمصان المفتوحة الصدر بألوان السبعينات الزاهية”.

وحسب ما يبدو لي فلا شارب لـميلاد في الصورة. تبدو صورة ميلاد من خلال ملامحه بعيدة عن سمات الرجولة، تفصح عيناه ونظراته عن قلقه وانكساره، وعدم ثقته بنفسه، ممسكًا برغيف الخبز كأنه حبيبته. وهذا ما يبدو منذ قراءة الرواية، أن المخبز هو عالمه المضيء، والملاذ الذي يلوذ به، بل هو الحب الذي يفوق حبه لزوجته زينب وللمدام، بدليل أنه في محاولته الانتحار تذكر العجين المختمر خوفًا عليه من التلف.

الرواية مبتدأها “المخبز” متسق مع منتهاها (المطبخ)، حيث في هذا الفصل الأخير ستكون النهاية الدرامية لـزينب على يد ميلاد مذبوحة بمشرط الخبز… “مشرط الحياة والموت”. وما بين هذين الفصلين هناك زخم هائل من التفاصيل، مثلاً العلاقة بين الرجال والنساء في مجتمع منغلق مما ساهم في تعرية المجتمع الليبي، من خلال سمات ومسارات الشخصيات العديدة الواردة في الرواية: ميلاد / زينب / العبسي – خدوجة – المدام – أب ميلاد ووالدته – المادونا وأخواته: صالحة – أسماء – صفاء وصباح. مشاهد الجنس العديدة والمُغرِقة أحيانًا في المبالغة سواء مع عاملة الجنس أم مع زينب أم مع المدام. ميلاد الشخصية الأساسية شخصية مضطربة حائرة ما بين الرجولة والأنوثة، رجل مخنث أو رجل هجين أو “دلدول” كما عيَّره أبوه قائلاً: “أرى فيك ميوعة، ويجب أن تكون رجلاً”. وفي مشهد آخر ينزع الأب الحزام “رمز الفحولة” من سرواله ويجلد ميلاد حيث ما استطاع قائلاً: “سأصنع منك رجلاً، حتى لو كان ذلك آخر يوم في حياتي”. وسيستمر الراوي في ذكر موبقات ميلاد: “تنزع الشعر عن سيقان أخواتك أيها المخنث؟” أو كما وبخه “المادونا” رمز الرجولة والفحولة في المعسكر، حيث سقط متعبًا من الجري وتبول على نفسه: “ميلاد، يا ضعيف، انهض! هل تريدني أن أحملك؟ ها ها ها! هل عليَّ أن أبحث عن قضيبك؟ أمَتأكد أنك رجل؟ هيا يا غبي، عش يومًا ديكا ولا عشر دجاجات…”.

في المجتمعات الأبوية التي تؤمن بالسلطة الذكورية، سلطة الرجل على نساء عائلته. لماذا كان ميلاد يبكي في بعض المواقف الحرجة التي لم يستطع أن يثبت فيها رجولته؟ مثلاً بكاؤه أمام زينب، بكاؤه أمام خدوجة حين عجز عن مضاجعتها في البراكة. لماذا قلب الأدوار النمطية في مجتمعه الذكوري، ورضي بالمنزل فضاءً خاصًا يمارس فيه كل الأعمال المنزلية بمهارة عالية، بينما زوجته تمارس العمل في فضاء عام وتقوم بالإنفاق على البيت؟ تجيبنا الدكتورة فاطمة المرنيسي عن تأثير ذلك بما يسمى “مملكة الأمهات”، ويبدو ذلك في السلوكات الاجتماعية والثقافية للأفراد خصوصًا الذكور، فهم بما في ذلك النزعة الذكورية في مجتمعاتنا بدءًا من الإنصات للغة الأم وسلطتها في التوجيه والوصاية، ليس بوصفها حاملة للثقافة والتراث فقط، بل بوصفها هي التي تشكل الذهنية والوجدان، ولذلك فإن هذه البنية العاطفية الأمومية التي تغيرها التربية الأولية ترجع إليها معظم الاضطرابات النفسية والسلوكية في علاقات الذكور خاصة بالآخر المختلف جنسيًا (الأنثى). وقد لاحظ المفكر عبد الله العروي في كتابه “من ديوان السياسة” الحضور المكثف للأم والأمومة كمنظم للتربية الأولى للطفل الذكر قبل التربية النظامية والتنشئة الاجتماعية، ولذلك يقول عبد الله العروي: “كل المعطيات المتعلقة بالانتماءات الجغرافية والعرقية والجنسية واللغوية والطبقية والدينية تنعكس في جسم ووجدان وذهن الطفل وهو تحت رعاية الأم”.

لذلك نجد في رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” أن هناك غيابًا دائمًا للأب الحاج المختار بمخبزه / الكوشة، بينما الذكر الوحيد بين أربع أخوات وأم في وضعية الشحن العاطفي “الحاجة فاطمة” الأم المقتنعة أنه ليس للمرأة مكان سوى بيتها ولا طموح لها سوى راحة زوجها. إن حضور الأم المكثف وأخوات ميلاد الأربع: صالحة – صباح – صفاء وأسماء، استمد ميلاد منهن كيفية تشكيل شخصيته منذ طفولته، وهي التي حددت اختياراته وتمثله للمقدس والمدنس في علاقته بالمرأة والحياة عمومًا. لقد اكتسب ميلاد من أخواته كل السلوكات والتصرفات وهو يجالسهن في البيت مطلعًا على أسرارهن وحميميتهن. يقول الراوي على لسان ميلاد: “أنا لم أتعلم الكثير من أخواتي فقط، بل عنهن أيضًا، بل أعرف عنهن أكثر مما يعرفن عن أنفسهن”. هنا هل يمكننا أن نتحدث عن رمزية “عقدة أوديب” التي تشد الذكر إلى أمه؟ أي مملكة الأمهات كما أشار إليها الباحث التونسي عبد الوهاب بوحديبة؟ هذه المملكة التي تمنع الذكر من الانعتاق من أحضان أمه، بل وتمنعه من الدخول إلى “مملكة الزوجات” كما وقع لـميلاد في صراع بين زوجته وأمه، فاختار تغييب هذه الأخيرة أو قتلها رمزيًا بالانحياز إلى مملكة زوجته زينب، وذلك بالابتعاد عن بيت العائلة وتأسيس بيت مستقل، لأن زينب صورة للمرأة المتمردة على المجتمع الأبوي المتسلط. فكأننا أمام الأسطورة الأمازيغية المعروفة “حمو أونامير” التي تجسد روابط الأمومة التي تمثلت في سلوكات وتصرفات ميلاد ليبعث رجلاً حقيقيًا، رجلاً يبحث عن رجولته الضائعة التي يحاول استعادتها بطرق شتى، وبتحريض ابن عمه “العبسي” الوجه البارز للفحولة والرجولة… التدخين، اللواط، ممارسة الجنس أمام العيون، الألفاظ النابية… وعقدة “أوديب” الغزبية التي تمثل صراعًا ضد الأب للفوز بالأم تنتهي بمقتل الأب، في حين أن عقدة “حمو أونامير” تشكل صراعًا ضد صورة الأم التي تمنح ثم تأخذ، تُهمل وتُعنّف، وتُغيِّبها ولا نبتعد عنها.

ورغم شخصية ميلاد المضطربة، الحائرة، الرخوة، الباحثة عن هوية الرجولة والفحولة، سيتمكن في الفصل السادس “المطبخ” من ذبح زوجته الخائنة بمشرط الخبز الحاد، رمز الحياة والموت، بعد أن جلدها بحزام “العبسي” الهدية التحريضية عن الضرب والعنف. فكانت يد ميلاد الخائف والقاتل، ووراءها أيادي ذوي العقليات الذكورية المتسلطة التي شحنته: والده – عمه – ابن عمه “المادونا”…

الرواية قسمة القهر بين المؤنث والمذكر، وشهادة على نقص المرأة وقصورها، وحصرها في كونها جسدًا للجنس والإنجاب. النظرة الدونية تتبدى من بداية الرواية حين لاحظت بأن ميلاد انطلقت يداه وهو يرتدي قميصه، وضغط على ضلوعه ليطمئن على وجودها جيدًا في مكانها الصحيح: “شعرت لوهلة بأنني أخطأت العد، ربما يكون هناك ضلع ناقص، ربما هو ذاك الضلع الذي أخذه الله من آدم وهو نائم”. وهنا تحضرني أسطورة الشاعر أرسطوفان، حيث أنه في البدء كانت أجساد الجميع ذكورًا وإناثًا غير منفصلة، كل جسد عبارة عن ذكر وأنثى في آن واحد، غير أن الآلهة في لحظة غضب قررت أن تفصل الجزء الأنثوي عن الجزء الذكوري، ففُرّق الناس إلى ذكور وإناث، ومن ثم أصبح كل واحد يبحث عن نصفه الثاني الذي انفصل عنه. وهكذا تتتجسد رمزية عبارة “البحث عن النصف الثاني” في رحلة البحث عن الزواج. ونجد أن هذه الأسطورة يمثلها  محيي الدين بن عربي بتأويل إسلامي أعاد صياغتها، فجعل انفصال حواء عن آدم في الجنة رمزية ضلع آدم هو ما أخرجهم إلى الأرض بعدما كانا جسدًا واحدًا. غير أن وقوع معظم الناس في النصف الخاطئ، هو ما يفسر نسبة الزواج الفاشل في كل الأزمنة والأمكنة، وهنا يكمن أحد مصادر الشقاء البشري.

وعلى العموم، رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” رصدت لنا العديد من مظاهر المجتمع الليبي في المدينة والقرية، وقدم الراوي انتقادات لهذا المجتمع الذكوري المتخلف، وفي نفس الوقت لم يمجد الثقافة الأبوية المتسلطة.

الأمثال التي تصدرت كل فصل:

* عيلة وخالها ميلاد.

* تعيش يوم ديك ولا عشر دجاجات.

* الفرس على راكبها.

* البنات زريعة إبليس.

* اضرب القطوسة تتربى العروسة.

* الراجل ما يعيبه شيء.

ظاهرة العنف بكل أشكاله، ظاهرة البغاء واعتبار المرأة مفهومًا شبقيًا لا غير، انتشار السحر والخرافة. المرأة في الرواية بين التقليد والحداثة، زينب نموذجًا. ان وجدت في مجتمع مغلق من جهة، وتأثير عمها الفنان المتمرد التشكيلي في تكوينها الفكري جعلها تتراوح بين الدفاع عن الحرية والالتزام بالتقاليد. فهي المحجبة التي تنزع حجابها حينما تسافر إلى تونس، وتلبس البكيني للسباحة، وتدخن السجائر، وتدافع عن الزنا إذا كان الجامع المشترك هو الحب، بينما تقوم بأداء الصلاة في مواقيتها. هي المرأة التي قلبت الأدوار النمطية في المنزل، فهي المُعيل والعاملة في إدارة إحدى المؤسسات، بينما زوجها ميلاد يقوم بكل أعمال المنزل.

وأخيرًا، هناك من يرجح أن الرواية “جندرية بامتياز”، لأنها تناقش مسألة غاية في الأهمية: معايير الذكورة والأنوثة ومفهوم الجندر والصور النمطية الجندرية والمساواة بين الجنسين أو عكس الأدوار الجندرية التي تخالف الأعراف المجتمعية السائدة. وقد حملت الرواية أنماطًا ثقافية مضمرة يغلب عليها البعد الاجتماعي، فهل مقصدية الروائي كانت الدفاع عن المرأة، وتبيين سلبيات السلطة الذكورية، أو أن المرجعية في ذلك هي مجرد ثقافة خاطئة؟

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا