الراحلة التي لا ترحل:فاطمة الوكيلي كما نتذكرها!

صور: زليخة
فاطمة الوكيلي… آن سان كلير المغرب التي صنعت الفارق
في 7 ماي 2025، أي قبل يومين، ذكرني “فايسبوك” بملصق إعلاني يعود لسنة مضت، يُعلن عن حفل تأبين الراحلة فاطمة الوكيلي تحت عنوان: “صديقات وأصدقاء المرحومة فاطمة الوكيلي يتذكرون، يوم 10 ماي 2024.”.
فشعرت ـ بأسف وشيء من العتاب للنفس ـ أن ذكرى رحيلها يوم 26 مارس 2024 مرّت دون أن ننتبه إليها، وهو تقصير لا يليق بمكانتها في القلب والذاكرة.
ولأكفّر عن هذا الغياب غير المقصود، قررت أن أخصص هذه المساحة للاحتفاء بها، في ذكرى اللقاء الذي جمع حولها محبيها، يومه السبت 10 ماي 2025.
فاطمة الوكيلي… بصمة نسائية في قلب الإعلام السياسي
في ذكرى رحيلها، لا نستحضر مجرد اسم لامع في الإعلام، بل نُحيي حضور أيقونة حقيقية في تاريخ الإعلام المغربي، وبخاصة الإعلام السياسي.
ففاطمة الوكيلي، تلك السيدة التي شقّت طريقها في ميدان طالما ظل حكراً على الرجال، نجحت في أن تفرض اسمها وصوتها واحترامها على الجميع، لا باستعراض أو صخب، بل بكثير من الذكاء والمهنية والحضور اللافت.
كانت البداية من طنجة، حيث شاركت في إطلاق وإنجاح تجربة إذاعة البحر الأبيض المتوسط “ميدي1″، ثم كانت من الوجوه المؤسسة لتجربة “التلفزة تتحرك” في القناة الوطنية الأولى بداية الثمانينيات، في زمن الإطار الفرنسي بكّار.
لاحقاً، ساهمت في انطلاقة القناة الثانية، سواء على مستوى الأخبار أو في إطلاق أولى تجارب النقاش العمومي والبرامج الحوارية السياسية والفكرية.
وهكذا، شقّت مسيرة مهنية غير مسبوقة، بلغت فيها القمة وهي تحاور الكبار وتخوض مغامرات إعلامية جريئة، جعلت منها “آن سان كلير المغرب”، في زمن لم يكن فيه الإعلام السياسي الحواري المباشر مألوفاً في البلاد.
كانت أول من قدّم برنامجًا سياسيًا مباشراً على شاشة مغربية، بعنوان قوي: “رجل الساعة”. لم يكن مجرد برنامج، بل منصة حقيقية لمساءلة رجال السلطة والفكر، ومصارحة الجمهور.
جلست أمام مفكرين ووزراء وزعماء أحزاب وقادة عرب، كان أشهرهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في لقاء اعتُبر حدثاً تاريخياً، إذ ظهر لأول مرة على شاشة التلفزيون المغربي.
وكانت فاطمة، بعد كل حوار، تخرج بأوسمة التقدير والاحترام، من الضيوف قبل الجمهور.
فاطمة الوكيلي لم تكن مذيعة عادية. كانت رقماً صعباً في المشهد الإعلامي المغربي. لم تسعَ للإعجاب، بل فرضته. لم تكن تتلو الأسئلة، بل كانت تنحتها بدقة، تطلقها بجرأة، وتواجه بها أقوى الرجال بلا تردد.
لم تُعرف نفسها يوماً كامرأة تواجه السلطة، بل كإعلامية تؤمن بواجبها المهني تجاه الحقيقة.
إلى جانب الإعلام، برز اسمها أيضًا ككاتبة سيناريو وممثلة، حيث شاركت في عدد من الأعمال البارزة مثل شواطئ الأطفال الضائعين، كيد النسا، نساء ونساء، ذاكرة معتقلة، الصفحة الأخيرة.
رحلت فاطمة الوكيلي، لكن أثرها بقي. بقيت “امرأة الموقف”، الصوت النسائي الذي مهد الطريق أمام أجيال من الإعلاميات والإعلاميين، والذين وجدوا في تجربتها نموذجاً يُحتذى.
لم تركن إلى الأضواء، ولم تتاجر بالصورة، بل صنعت تاريخًا إعلاميًا حقيقيًا، نادراً، شفافًا، وراسخًا في الذاكرة.
خلف الشاشة، كانت فاطمة إنسانة هادئة، بسيطة، محبة لزملائها، ووفية للمهنة. لم تتعامل مع الإعلام كمهنة فحسب، بل كمسؤولية ومجال للتأثير الإيجابي.
وكانت من الأصوات النسائية الملهمة التي فتحت الأبواب لنساء كثيرات، لا عبر التباهي، بل من خلال القدوة، والعمل المتقن، والحضور المتزن، والإصرار على الرقي في الأداء.
وهكذا تحوّلت إلى مصدر إلهام لجيل جديد من الإعلاميين والإعلاميات، يرون في مسيرتها رمزاً للثبات والاحتراف والمهنية.
اليوم، ونحن نعيش زمن التفاهة والتكرار والسطحية، نفتقد وجهًا مثل فاطمة الوكيلي. نفتقد الرصانة، والعمق، والوقار.
نفتقد تلك السيدة التي جعلت من برنامجها حوارًا لا استعراضًا، ومن الشاشة منبرًا حقيقياً للرأي والرأي الآخر، ومن الصحافة صوتاً للحقيقة.
في 30 أكتوبر 2023، وفي لحظة ستظل محفورة في ذاكرة المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، اعتلت فاطمة الوكيلي منصة التكريم خلال دورته الثالثة والعشرين، وسط تصفيقات حارة من الحضور. بدت بكوفيتها الفلسطينية شامخة، تختزل بإطلالتها موقفًا ثابتًا من قضية آمنت بها حتى النهاية.”
“قالت حينها:
تحية وسلام لفلسطين الصامدة في وجه الاحتلال، وللمقاومين في غزة، أهل الصمود والعزة والكرامة.”
“سلام على هذا الجمع الفني، وعلى هذه اللمة المفعمة بالأماني السامية، وسلام لفلسطين المقاومة (بفتح الواو) وفلسطين المقاومة (بكسرها). سلام على أهل غزة.”
اليوم، ونحن نُحيي ذكراها، لا نرثيها فقط، بل نحتفل بها. نحتفي بسيدة اختارت أن تترك بصمتها لا بالصراخ، بل بالاتزان. لا بالضجيج، بل بالاحترام.
نحتفل بإعلامية آمنت بأن الكلمة مسؤولية، وبأن الشاشة ليست مرآة للغرور، بل منبر للعقل والضمير.
كان رحيلها بعد معاناة طويلة مع المرض، وخلف غيابها حزناً ممضًا في نفوس من عرفوها، وترك صدمة حقيقية في الوسط الإعلامي.
كانت جنازتها مهيبة، حضرتها إلى جانب الصديقة أمينة غريب، التي نعتها بكلمة قرأتها بتأثر بالغ:
“تركناها حيث انتهت رحلتها، في مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، يرافقها علم فلسطين؛ القضية التي عانقتها إلى النخاع.
فاطمة الوكيلي، روح إنسانية لا تتجزأ. في قسم التحرير العربي بدار لبريهي، عشنا شغف المهنة مع الراحل أحمد الزايدي.
أتذكر طقسها اليومي بعد إعداد النشرة، حين تنعزل لتُعيد مشاهدة كل المواد وتبحث عن الخيط الرابط والجملة المفتاح لتنتقل بين المواضيع بذكاء مهني.
صحافية محاورة، عاشقة للكتاب، ممارسة للكتابة، منفتحة على القضايا الإنسانية والتعبيرات الإبداعية. بعفويتها وإنسانيتها، تجاوزنا العلاقة المهنية إلى علاقة إنسانية بقيت حتى رحيلها.
عاشت انكسارات، نجاحات، غيابات، لكنها لم تفقد تلك الروح التي جعلت منها امرأة ترفض القوالب الجاهزة.”
إلى جنات النعيم، أيها القمر الحزين”، بهذه العبارة ودّعها الإعلامي والكاتب محمد بوخزار.
ونحن أيضًا، في ذكرى رحيلها، لا نجد أبلغ من أن نقول:
“لترقد روحك بسلام، كما كنتِ دائمًا: صادقة، مضيئة، ومترفعة عن الضجيج… كنتِ سلامًا في زمن العواصف.”