ميموزا صلاح الوديع:شهادة حية من قلب زمن الجراح

بورتريه/ عزيزة حلاق
صور/ زليخة
صلاح الوديع… حين يتماهى الاسم مع الحياة
في ملامحه يلتقي بريق القصيدة بمعاناة الزنازين، وفي صوته يتجاور الحلم القديم مع حكمة من عبروا السجون ولم تنكسر أرواحهم. صلاح الوديع ليس مجرد شاعر ينثر الكلمات على بياض الورق، ولا مجرد مناضل يسرد ماضيه بإصرار المتعبين. هو ابن زمن مغربي مضطرب، تشكل في رحم المقاومة الفكرية، واختبر قسوة السجون مبكرًا، دون أن يفقد خيط الأمل في غدٍ أكثر عدلاً وإنسانية.
يُقال إن لكل إنسان نصيبًا من اسمه، ويبدو أن صلاح الوديع خُلق ليجسد اسمه بكل تفاصيله. صلاح في رؤيته ومسيرته، ووداعة في روحه وحضوره. يجمع بين سعي دؤوب نحو الإصلاح والصلاح، وبين رقة تفيض على تفاعله مع الآخرين بصفاء وهدوء داخلي. هو الشاعر الوديع، الذي يحمل قلبًا رقيقا وروحًا شفافة تتلمس نبض الإنسان في أعمق تجلياته. في سيرته كما في شعره، ينسج صلاح الوديع خيطًا متينًا بين بناء الأوطان وتقدير لحظات الحياة البسيطة، ليظل نموذجًا مضيئًا لشخصية تتسم بعمق التعبير الإنساني وصفائه.
ميموزا: هكذا تحدث صلاح الوديع
“ما عشته، عشته بكل جوارحي، وكان ممكنًا أن أذهب ضحية ملابساته. لم أكن أحسم في أي لحظة بمنعرجاته الصعبة، أن سيقيد لي يومًا أن أكتب عنه وأنا في هذه السن.
أكتب ما عشته، ربما حتى لا تمحوه الأيام. أكتب لا لأن ما عشته أبلغ أو أقوى أو أعتى مما عاشه آخرون، بل لأن لكل تجربة فرادتها وقيمتها في حد ذاتها، باعتبارها معيشًا إنسانيًا متفردًا… يستحق أن يُحكى. إذا وجد من يحكيه، وكيف يحكيه، ولمن يحكيه…..”.
بهذه الكلمات التي تختلط فيها مرارة التجربة برغبة البوح، يفتتح صلاح الوديع كتابه ” ميموزا ( سيرة ناج من القرن العشرين )“، سيرة ذاتية ليست كسائر السير. فحين جلس مساء أمس برواق المعرض الدولي للنشر والكتاب ليقدم عمله الجديد، بدا وكأنه يكتبنا نحن أيضًا، يكتب بعضًا من ذاكرتنا المهددة بالنسيان.
كان صلاح هناك جالسا وبجانبه صديق دربه في الحياة والنضال، ادريس اليزمي، كان كما عرفه محبوه دومًا: إنسانًا بسيطا متواضعا هادئا محبا، يتقدم بكلماته متأبطًا ذاكرته، وبدمعة قريبة لا تخون صدق مشاعره. لم يكن حديثه مجرد استعادة لأحداث مضت، بل كان رحلة صادقة عبر دهاليز الروح والمنعطفات الحادة للزمن المغربي.
ميموزا هو كتاب عن حياتي وحياة أسرة محمد الوديع الآسفي وثريا السقاط.
استرجع في اللقاء بعض تفاصيل ذكريات الطفولة، تحدث عن علاقته العميقة بوالده المناضل والشاعر الوديع الآسفي، الذي علمه أن حب الوطن ليس شعارًا يُرفع، بل معاناة تُعاش، وبوالدته، الشاعرة الراحلة ثريا السقاط، التي زرعت فيه شغف الحرف ووهج القصيدة ومعنى التضحية مقابل كلمة حق تقال ضد الظلم والاستبداد. تحدث عن عائلته الكبيرة، عن إخوته وأخواته التسعة، وعن شقيقته الراحلة آسية الوديع، التي ظلت، كما قال، ضوءًا دافئًا في مسارات الظلمة.
“ميموزا”، ذلك الكتاب الضخم حجمًا وروحًا، ليس مجرد اعترافات ذاتية، بل شهادة على جراح وطن. من سنوات الرصاص بكل قسوتها، إلى تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة ومحاولة جبر الضرر، ينتقل صلاح الوديع بين المحطات الكبرى لتاريخنا المعاصر، رابطًا ما هو شخصي بما هو جماعي.
صلاح الوديع: الذاكرة حين تكتب بالدمع والحبر
ومن بين أكثر الحكايات المؤثرة في الكتاب التي استحضرها في جلسة أمس، قصة اكتشافه أن أحد طلابه الجامعيين كان ابنًا لجلاده السابق، قدور اليوسفي. في تلك المصادفة المذهلة، تتلاقى وتتقاطع دروب الألم والمسامحة والقدر، لتذكرنا أن التاريخ لا يُطوى بسهولة، بل يظل حيًا في تفاصيل غير متوقعة.
كانت الأمسية بمثابة سفر بين الألم والأمل، بين ذاكرة ما تزال تنبض بالحياة، وبين رغبة صادقة في الحكي كي لا تبتلع الأيام ما كان. صلاح الوديع، بشفافيته وجرأته، لم يكتب فقط سيرته… بل منح صوته لكل أولئك الذين مروا بمنعرجات الصمت والخوف والكرامة المجروحة.
صلاح الوديع، بهذا المعنى، ليس مجرد سيرة ذاتية، بل هو مرآة لجيل بأكمله: جيل تأرجح بين الشك واليقين، بين السقوط والنهضة، لكنه ظل يؤمن، رغم كل شيء، أن للكرامة ثمنًا لا بد أن يُدفع، وأن الحرية، مهما تأخرت، تبقى أجمل أحلام الإنسان.
وكتابه “ميموزا” ليس مجرد كتاب، إنه دعوة لأن نصغي إلى تجاربنا الخاصة ونؤمن أن كل معيش إنساني، مهما بدا بسيطًا أو صغيرًا، يستحق أن يُروى، ما دام هناك من يتقن الإصغاء ويحسن الحكي. وقد نحكي حتى نبقى.
صور الفيديو: حميد كؤيم
توضيب: جمال الحزازي