أغاثا كريستي:سيدة الغموض التي خططت لجرائمها أثناء غسل الصحون

في فضفضة صباحية خفيفة، نشرتها الكاتبة أحلام مستغانمي على صفحتها بالفايسبوك قالت فيها:
“بالنسبة إليّ شخصيّاً، أعظم الأفكار الروائية عثرت عليها وأنا أقوم بالأشغال المنزلية. ولأنّي دفعت ثمن هذه المقولة سنوات من عمري، فقد تمنّيت مازحة أن تُسجّل باسمي، وألّا أجدها في الأنترنت منسوبة إلى غيري، لكنّني ما كدت أنشرها بزهو كبير، حتى جاء من يقول لي إنّ أغاتا كريستي قالت: «أفضل وقت للتخطيط لكتاب هو أثناء غسل الصحون»!
لم أصدّق أن السيدة أغاتا كريستي تركت كلّ مجدها ولحقتني ع المجلى؟! معقول؟ سيدة الفضول التي كانت تصول وتجول برفقة زوجها متنقلة في بلاد الشرق بين الهند وبغداد والشام ومصر، بحثاً عن خيوط جريمة جديدة، تريد منافستي في مطبخ من بضعة أمتار أهدرت فيه نصف عمري؟ في جميع الحالات، ما كنّا أنا وهي نقصد المطبخ بالدافع نفسه، فملكة الجريمة التي في عنقها 80 جثة كانت وهي أمام المجلى تبحث بين السكاكين والشوك عن مخطّط لجرائمها، وتكتب أثناء ذلك «جريمة في قطار الشرق السريع» و«لم يبق منهم أحد» فتقتل هذا، وتسمّم ذاك، وتلقي بثالث من القطار.
*أغاتا كريستي “ملكة الجريمة”
فالفعل، هذه هي أغاثا كريستي التي لقبت ب”ملكة الجريمة”، فقد كانت واحدة من أعظم الكتّاب في تاريخ الأدب البوليسي، حيث بيعت أكثر من ملياري نسخة من كتبها، مما جعلها من أكثر الكتّاب مبيعًا على مر العصور. ورغم حبكتها المعقدة وشخصياتها المتقنة، إلا أن كريستي لم تكن تكتب وفق منهج أكاديمي صارم، بل كانت تستلهم أفكارها في أماكن غير متوقعة، مثل غسل الصحون، حيث قالت ذات مرة: “أفضل وقت للتخطيط لكتاب هو أثناء غسل الصحون”.
*طفولة وموهبة مبكرة
وُلدت أغاثا كريستي في 15 سبتمبر 1890 في بلدة توركي بإنجلترا، ونشأت في بيئة محبة للقراءة والموسيقى. لم تلتحق بالمدرسة بشكل نظامي، بل تلقت تعليمها في المنزل على يد والدتها، التي شجعتها على التأليف منذ الصغر. بدأت مسيرتها ككاتبة في سن مبكرة، لكنها واجهت رفضًا متكررًا قبل أن تجد طريقها إلى النجاح.
*بداية النجاح الأدبي
في عام 1920، نشرت كريستي أولى رواياتها “القضية الغامضة في ستايلز”، والتي قدمت فيها شخصية المحقق البلجيكي الشهير هيركيول بوارو، الذي أصبح واحدًا من أكثر الشخصيات المحبوبة في الأدب البوليسي. وبعد ذلك، توالت نجاحاتها بروايات مثل “جريمة في قطار الشرق السريع” و”ثم لم يبقَ أحد”، التي تعتبر واحدة من أكثر الروايات مبيعًا في العالم.
*أسلوبها وطقوسها في الكتابة
تميزت كريستي بأسلوبها البسيط لكن الذكي، الذي يعتمد على التشويق وبناء الحبكة بشكل متقن، حيث تضع القراء في حالة من الترقب حتى اللحظة الأخيرة. وعلى عكس ما قد يعتقده البعض، لم تكن تخطط رواياتها بأسلوب دقيق مسبقًا، بل كانت تستوحي أفكارها أثناء قيامها بالأعمال اليومية، مثل غسل الصحون أو المشي في الحديقة.
كما كانت تفضل الكتابة بالقلم الرصاص بدلاً من الآلة الكاتبة، وكانت تحتفظ بدفاتر مليئة بالملاحظات العشوائية حول شخصياتها وألغازها. ورغم عبقريتها في الكتابة، فقد اعترفت ذات مرة بأنها كانت تعاني من صعوبة في التهجئة!
*إرث لا يُنسى
لم تقتصر شهرة كريستي على الروايات فقط، بل امتدت إلى المسرح والسينما والتلفزيون، حيث تحولت العديد من أعمالها إلى أفلام ومسلسلات ناجحة. تُعد مسرحيتها “مصيدة الفئران” أطول مسرحية عرضت في تاريخ المسرح البريطاني.
*حياتها العاطفية
حياة أغاثا كريستي العاطفية لم تكن أقل غموضًا من رواياتها، بل تخللتها أحداث درامية واختفاء غامض جعلها محط اهتمام الصحافة والجمهور.:
*الزواج الأول: الخيانة والاختفاء الغامض
تزوجت أغاثا كريستي عام 1914 من الطيار البريطاني آرتشيبالد كريستي. بدت حياتهما سعيدة في البداية، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى، حيث كانت تعمل ممرضة بينما كان زوجها يخدم في سلاح الطيران
لغز اختفائها..
في عام 1926، واجهت أغاثا صدمة كبيرة عندما اعترف زوجها بأنه على علاقة بامرأة أخرى تُدعى نانسي نيل، وأخبرها بنيته الطلاق. هذه الخيانة أصابتها بانهيار عصبي، وأدت إلى واحدة من أغرب الحوادث في حياتها: اختفاؤها الغامض لمدة 11 يومًا.
ففي ليلة 3 ديسمبر 1926، غادرت أغاثا منزلها تاركة رسالة تفيد بأنها ذاهبة إلى الريف، لكنها لم تعد. عُثر على سيارتها مهجورة بالقرب من بحيرة، مما أثار تكهنات عديدة، من بينها احتمال انتحارها. بدأت الشرطة عملية بحث واسعة، شارك فيها مئات المتطوعين وحتى بعض الكُتاب المشهورين مثل آرثر كونان دويل.
*أغاتا تستعير اسم عشيقة زوجها
بعد 11 يومًا، وُجدت أغاثا في أحد الفنادق تحت اسم مستعار، “السيدة نيل”، وهو اسم عشيقة زوجها! زعمت أنها كانت تعاني فقدانًا مؤقتًا للذاكرة بسبب الصدمة، لكن البعض يعتقد أنها اختلقت الأمر بدافع الانتقام وجذب اهتمام زوجها. في النهاية، انفصلت عنه رسميًا عام 1928.
*الزواج الثاني: حب مختلف مع عالم الآثار
بعد طلاقها، سافرت أغاثا إلى الشرق الأوسط، وهناك التقت ماكس مالوان، عالم الآثار البريطاني الذي كان يصغرها بـ 14 عامًا. على عكس زواجها الأول، كان ماكس داعمًا لمسيرتها الأدبية، ورافقته في العديد من رحلاته إلى العراق وسوريا. تأثرت أعمالها بهذه التجربة، فكتبت روايات مثل “جريمة في قطار الشرق السريع” و”موعد مع الموت”، التي دارت أحداثها في مناطق أثرية.
ظل زواجهما قويًا حتى وفاتها عام 1976، رغم شائعات عن خيانته في سنواتها الأخيرة، لكن لم يكن هناك دليل قاطع على ذلك.
*الجانب الرومانسي في شخصيتها
رغم براعتها في كتابة قصص الجريمة، لم تكن أغاثا كريستي رومانسية بالمعنى التقليدي. فقد وصفت الحب بأنه “شيء معقد وغير مفهوم”، ولم تكتب الكثير من القصص العاطفية، باستثناء بعض الروايات التي تضمنت عناصر رومانسية مثل “مقبرة الأناضول”.
خاتمة
رحلت أغاثا كريستي في 12 يناير 1976، لكنها تركت وراءها إرثًا أدبيًا خالدًا، ولا تزال قصصها تُقرأ وتُقتبس في أعمال فنية جديدة حتى اليوم.
ورغم أن أغاثا كريستي كانت سيدة غامضة في حياتها، إلا أن أعمالها كانت واضحة ومذهلة في حبكتها. وربما لم تكن تخطط لقصصها على طاولات العمل الفخمة، لكنها أثبتت أن الإلهام قد يأتي من أكثر الأماكن بساطة، حتى أثناء غسل الصحون.