خربوشة.. صوت المقاومة الشعبية ضد الظلم

في تاريخ المغرب، برزت شخصيات نسائية عديدة كنماذج للقوة والشجاعة في مواجهة الاستبداد، لكن لم يسبق أن حظيت شخصية نسائية، بشعبية وشهرة مثل خربوشة التي أصبحت رمزًا للتمرد والمقاومة الشعبية ضد القهر والاستبداد.
خربوشة، المغنية والشاعرة الشعبية، كانت لها جرأة تحدّت بها بطش الحكام بصوتها وكلماتها اللاذعة..
فمن هي خربوشة؟
خربوشة، واسمها الحقيقي حادة الزيدية، كانت شاعرة ومغنية شعبية (شِّيخة) عاشت في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 في منطقة عبدة، غرب المغرب. لم تكن مجرد مؤدية للأغاني، بل كانت شاعرة زجالة تمتلك قدرة فريدة على التعبير عن هموم الشعب ونقل معاناته من خلال فن “العيطة”، وهو اللون الغنائي الذي يعكس روح المقاومة في المغرب.
السياق التاريخي.. حكم القائد عيسى بن عمر
عاشت خربوشة في فترة اتسمت بسيطرة القياد على القبائل، وكان أبرز هؤلاء القائد عيسى بن عمر العبدي، الذي حكم بقبضة من حديد وأخضع الناس بالقوة والتنكيل. لم يتردد في استخدام العنف لإخماد أي تمرد، وفرض الضرائب الباهظة، مما أدى إلى سخط واسع بين القبائل، خاصة قبيلة “أولاد زيد” التي تعرضت لقمع شديد بسبب تمردها ضد حكمه.
الكلمة كسلاح ضد الاستبداد
في هذا المناخ القمعي، استخدمت خربوشة موهبتها في الغناء والزجل لمقاومة الظلم، فكانت أغانيها سلاحًا حادًا ضد القائد عيسى بن عمر. لم تخفِ انتقاداتها له، بل كانت تصفه بأوصاف مهينة، وتسخر من قوته المفرطة وعنفه، وتحرض الناس على عدم الاستسلام والخضوع. ومن أشهر ما يُنسب إليها من عيوط:
“أُو حَرّْبُوشَة نْعَامَاسِي.. دْيَارْهُم خْلَاوْهَا قْفَارْ
لا زَادْتْ وَلا نْقَصَاتْ.. بْقَاتْ عَايْشَا فْالأَفْكَارْ”
كانت كلماتها تحمل دلالات قوية، تزرع الأمل في قلوب المظلومين، وتؤكد أن الظلم لا يدوم، وأن صوته وإن بدا عاليًا، سيأتي يوم يسقط فيه أمام قوة الحق.
معنى لقب “خربوشة“
يتساءل الكثيرون عن معنى خربوشة ولماذا لقبت بهذا الاسم؟ حاولت من خلال هذه الورقة البحث عن جواب لذلك، فوجدت أن اللقب “خربوشة” يحمل دلالات متعددة لكنها غير قطعية. إذ من المحتمل أن يكون مشتقًا عن
- الخربشة: وهو فعل يشير إلى الكتابة أو النقش بطريقة غير منتظمة، وربما أطلق عليها اللقب بسبب طريقتها الجريئة وغير التقليدية في التعبير عن معاناة الناس من خلال الشعر والزجل.
- الخربوش (التشويه): قد يكون إشارة إلى مظهرها أو تعرضها للعنف، إذ يُقال إنها عُذبت بشدة بسبب تحديها للقائد الظالم.
- اسم تحقيري من خصومها: ربما أُطلق عليها اللقب بشكل تحقيري من طرف القائد عيسى بن عمر أو أتباعه، لكنه تحول لاحقًا إلى رمز بطولي وصار مرتبطًا بشجاعتها.
من كل ما سبق، لا توجد رواية واحدة مؤكدة حول سبب تلقيبها، لكن أغلب الروايات الشعبية تشير إلى أن اللقب جاء إما بسبب قوة أشعارها الثائرة أو بسبب تعذيبها وتشويهها بعد وقوعها في قبضة القائد عيسى بن عمر. ومع ذلك، فإن هذا اللقب لم يُنقص من قيمتها، بل جعلها رمزًا للمقاومة والجرأة في تاريخ الأغنية الشعبية المغربية.
نهاية مأساوية لبطلة شعبية
لم يكن للقائد عيسى بن عمر أن يسكت عن هذه التحديات المباشرة، فعمل على القبض على خربوشة وتعذيبها بوحشية، حتى قيل إنها قُتلت بسبب أغانيها الثائرة. هناك روايات تقول إنه دفنها حيّة، بينما تذهب أخرى إلى أنها ماتت تحت التعذيب أو بعد نفيها إلى مكان مجهول.
ورغم اختفاء جسدها، فإن صوتها لم يمت، إذ بقيت كلماتها تتردد على ألسنة الناس، وأصبحت مثالًا للفنان الذي يقف في وجه الطغيان دون خوف.
إرث خربوشة في الثقافة المغربية
بعد أكثر من قرن على رحيلها، لا تزال قصة خربوشة ملهمة في المغرب، حيث تناولتها الأعمال المسرحية، السينمائية، والأغاني، أبرزها فيلم “خربوشة” لمخرجه حميد الزوغي، ومسلسلات مغربية عديدة. كما أن اسمها أصبح رمزًا لكل شخص يرفض الظلم، وللفن الذي يحمل رسالة مقاومة اجتماعية وسياسية.
وقد أفردت لها الجزيرة الوثائقية حلقة خاصة من سلسلة “حكاية أغنية”، وسلطت فيها الضوء على هذا اللون من الغناء الشعبي المغربي. وعلى أغنيتها التي تحمل اسمها، ” خربوشة”، التي ألهمت الكثيرين وحركت فيهم رغبة النبش في التاريخ والتراث. وقيل أنها كانت السبب في تعذيبها واعدامها من قبل القايد عيسى بن عمر العبدي، أحد أقوى قواد منطقة عبدة خلال فترة الحماية الفرنسية.
الأغنية التي قتلتها والتي تحمل اسمها: خربوشة
خاتمة
خربوشة ليست مجرد مغنية شعبية من الماضي، بل أيقونة نضال تبرهن أن الكلمة يمكن أن تكون أشد فتكًا من السيف، وأن الفن قادر على إسقاط هيبة الطغاة. قصتها شهادة حية على أن الأحرار، حتى وإن رحلوا، تبقى أصواتهم تتردد في الأجيال اللاحقة، لتلهم المزيد من المقاومين ضد الظلم. وتبقى خربوشة من النساء المغربيات الخالدات.