انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
أسماء لا تُنسى

الكاتب الحقيقي لا يكتب لإرضاء السلطة،بل ليزعجها

قراءة في فكر جوزيه ساراماغو وتأملاته في عالم ينهار ببطء

أسماء لا تُنسى: ركن جديد ينضاف إلى أركان “بسمة نسائية”

بعد أن خصصنا في “بسمة نسائية” ركنين للاحتفاء بـالنساء، “نساء خالدات” رحلن و”نساء ملهمات” يعشن بيننا، نفتح مساحة وفاء، لنستحضر أسماء رجالية تركت بصمتها في مسار الفكر، والإبداع، والنضال الإنساني، عبر ركن جديد بعنوان   “أسماء لا تنسى”..

في “أسماء لا تُنسى”، نستحضر أسماء تجاوز أثرها الزمن، وظل ما أنجزته شاهداً على عظمة الفكرة حين تتجسد في إنسان.

نستحضر اليوم الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو لا كأيقونة أدبية، بل كصوتٍ إنساني ظل يطرح الأسئلة الملحّة حول الحرية، الإيمان، العدالة، وحق الفرد في أن يفكر خارج القطيع.

كان ساراماغو ملتزمًا بقضايا العدالة الاجتماعية، وناقدًا شرسًا للعولمة، الرأسمالية، والتسلط الديني والسياسي. وهو الذي قال مرة:

“الكاتب الحقيقي لا يكتب لإرضاء السلطة، بل ليزعجها.”

تقديم:

في كتاباته، لا يبحث جوزيه ساراماغو عن إجابات سهلة، بل يزرع الأسئلة في تربة القارئ، لتظل تنمو وتتمدد حتى بعد إغلاق الصفحة. اشتُهر بنبرته الساخرة، وبقلمه الذي لم يهادن سلطة ولا مؤسسة.

في عالمه، السلطة ليست مجرد حاكم، بل فكرة تتسلل إلى اللغة والدين، إلى القوانين والعلاقات. ولذلك كان يكتب ليزعج، ليهز القناعة الكسولة، وليذكّرنا أن “الإنسان قد يتعلم أن يرى فقط حين يُصاب بالعمى”.

العالم كما يراه ساراماغو: تأملات في كهف الحضارة المعاصرة

في نصّ موجز وعميق من كتابه “المفكرة”، يرسم الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو صورة قاتمة للعالم الذي نعيش فيه، وكأنه يُحاكم عصرًا بأكمله عبر تأمل فلسفي أدبي يقترب من النبوءة. لا يتحدث ساراماغو عن حدث طارئ، بل عن انحدار حضاري طويل الأمد، يتجسد في التفاوت الاجتماعي، والانقراض البيئي، والفراغ الأخلاقي، والأهم: في تخلي الإنسان عن مسؤوليته في التفكير والاحتجاج.

في هذا النص، يضع جوزيه ساراماغو، إصبعه على نبض العالم الحديث، فيكشف عن ملامح أزمة حضارية شاملة، تتجلى في فوضى بيئية، وهشاشة إنسانية، واختلالات معرفية واقتصادية تزداد تعقيدا.

يبدأ ساراماغو لوحته السوداوية بملاحظة انقراض متواصل حين يقول: “في كل يوم تختفي أنواع من النباتات والحيوانات، مع اختفاء لغات ومهن”. هذه الجملة المفتاحية ليست فقط نداءً بيئيًا، بل تشير إلى محوٍ ثقافي ومعرفي، إذ يرتبط زوال الكائنات بانهيار أنظمة عيش ومعنى، حيث تختفي مهن ترتبط باليد والعقل، وتذوب لغات تحمل رؤى متفردة للعالم، ما يعني تجريفًا للتراث الإنساني.

ثم ينتقل إلى تحليل بنية اللامساواة: “الأغنياء يزدادون غنى، والفقراء دوماً يزدادون فقراً”. إنها الصيغة الموجزة لعقيدة الاقتصاد النيوليبرالي، حيث تُركّز الثروات والسلطات في يد أقلية، بينما تتسع الهوة الاجتماعية والمعرفية: “في كل يوم ثمة أقلية تعرف أكثر، وأخرى أكثرية تعرف أقل”، وكأننا أمام مجتمع جديد يقوم على احتكار المعرفة لا السلاح وحده.

ويحذر ساراماغو من “اتساع الجهل بطريقة مخيفة”، في ظل انبهار زائف بالتقدم التكنولوجي. لكن أخطر ما يرصده هو تآكل القدرة النقدية للإنسان المعاصر: “لقد تخلينا عن مسؤوليتنا عن التفكير والفعل”، وهنا يستحضر كهف أفلاطون: حيث الناس يظنون أن الظلال على الجدار هي الحقيقة، بينما الواقع الحقيقي معزول عنهم.

الحديث عن “نهاية الحضارة” ليس تشاؤماً عابراً، بل تعبير عن شعور عميق بخيانة الإنسان لوعيه الأخلاقي. فالمجتمع الاستهلاكي، الذي يتجسد رمزياً في “المول”، حول الإنسان إلى كائن خامد، يبحث عن اللذة اللحظية، ويتجنب كل ما يتطلب مقاومة أو مساءلة أو غضباً واعياً:”

لم نعد نحس بالغضب ولا نحتج، وهذه أسوأ أشكال الاستسلام. فـ”المول”، كما يقول، لم يعد مجرد مكان للتبضع، بل رمز لعصرنا كله: عصر التسطيح والتلهية والتخلي عن المعنى

رغم هذا التوصيف المتشائم، يختم ساراماغو بنغمة إنسانية رقيقة إذ يقول: لا يزال هناك من ينسحبون من هذا العالم لا ضعفاً، بل رفضاً. هم أولئك الحرفيون، الحالمون، الذين يحافظون على كرامتهم في زمن الانكسارات الكبرى. إنهم يغادرون بهدوء، لكنهم يتركون خلفهم سؤالاً موجعًا: أي عالم هذا الذي لم يعد صالحًا لسكناه؟

في الختام، ينبهنا ساراماغو أن الأخطر من الظلم أو الفقر أو انقراض الكائنات، هو خمود الضمير الإنساني، وفقدان القدرة على الغضب. فحين يصبح الإنسان غير قادر على الإحساس بالظلم، أو رفضه، أو حتى فهمه، نكون فعلاً أمام نهاية ليست فقط للحضارة، بل للمعنى نفسه.

ما يقدّمه ساراماغو هنا، ليس مجرّد تشخيصٍ لحال العالم، بل صرخةُ ضميرٍ تحثّنا على ألّا نعيش كظلالٍ على جدران الكهف، بل ككائناتٍ تفكّر، وتنتقد، وتحلم. ليست مجرّد رثاءٍ لعصرٍ ينهار، بل دعوةٌ قاسية وصادقة لاستعادة وعينا، وقدرتنا على التفكير، والفعل، والاحتجاج.

جوزيه ساراماغو: الكاتب الذي أزعج العالم بذكائه

جوزيه ساراماغو هو أحد أبرز الكتّاب البرتغاليين في القرن العشرين، وصوت أدبي عالمي. حمل قضايا الإنسان والعدالة والكرامة إلى مصاف الجمال الفني. وُلد في 16 نوفمبر 1922 في قرية صغيرة تُدعى أزيناغا، لعائلة فقيرة، مما أثر عميقاً على نظرته للعالم وللكائن البشري. اضطر لترك الدراسة في سن مبكرة والعمل في مهن يدوية، لكنه لم يتوقف عن القراءة والكتابة.

رغم بداياته المتأخرة كروائي، نشر ساراماغو روايته الكبرى الأولى “الإنجيل يرويه المسيح” عام 1991، التي أثارت جدلاً واسعًا بسبب تناولها الجريء للدين.

ومن أشهر أعماله أيضًا:

-العمى (1995): رواية رمزية عن وباء يصيب الناس بالعمى، فيكشف عن عرى الأخلاق والمجتمع.

-الطوف الحجري (1986): تتخيل انفصال شبه الجزيرة الإيبيرية عن أوروبا كنوع من الاحتجاج الرمزي.

-النسخة المكررة وكل الأسماء والموت دون توقف: روايات تدمج الواقع بالفانتازيا الفلسفية.

تميز أسلوبه بالسخرية الهادئة، والجمل الطويلة المتدفقة، والحوار المتداخل بلا علامات ترقيم تقليدية، مما منح نصوصه إيقاعًا خاصًا وصوتًا داخليًا متأملاً.

*حصل على جائزة نوبل للآداب التي مُنحت له عام 1998، وجاءت تقديرًا لـ”أعماله التي تجعل من الخيال، التعاطف، والرمزية وسيلة لفهم الواقع والتاريخ البشري”.

توفي جوزيه ساراماغو في 18 يونيو 2010، عن عمر يناهز 87 عامًا، تاركًا وراءه تراثًا أدبيًا وفكريًا يواصل طرح الأسئلة حول معنى الحياة والإنسان.

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا