بسمة نسائية/ منبر بسمة
بقلم: عبد العزيز العبدي
في الذكرى السنوية المئة والثمانين لميلاد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (15 أكتوبر 1944-2024)، نطرح سؤالًا فلسفيًا يتجاوز الزمان والمكان: ماذا لو كان نيتشه حيًا بيننا؟ كيف كان سيتفاعل مع العالمنا الحديث، في عصر تكنولوجيا التواصل، والحروب المستمرة؟..
نيتشه، الذي نادى بـ”إرادة القوة” و”الإنسان الأعلى”، وتحدى القيم السائدة، قد يكون مرآةً تعكس لنا رؤى عميقة حول التطورات التي يشهدها عصرنا. فماذا سيقول عن تكنولوجيا وسائط التواصل الحديثة، وعن الحرب الدائرة في الشرق الأوسط؟ وكيف سيكون موقفه من قضية الوجود الفلسطيني؟..
أحد أبرز مفاهيم نيتشه هو “موت الإله”، وهو تعبير رمزي عن انهيار القيم التقليدية وغياب السلطة الإلهية كمرجع للأخلاق.
اليوم، يمكن اعتبار التكنولوجيا الحديثة – وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي – تجسيدًا آخر لهذه الفكرة. إذ لم تعد السلطة حكرًا على المؤسسات التقليدية مثل الكنيسة أو الدولة، بل باتت متوزعة بين مليارات البشر عبر الإنترنت.
قد يرى نيتشه في وسائل التواصل الاجتماعي، ساحة جديدة لصراع إرادات القوة. الإنترنت مليء بالتعبيرات الذاتية، والصراعات من أجل فرض الآراء، والبحث عن الاعتراف. قد يكون نيتشه مهتمًا بقدرة الإنسان على استخدام هذه الأدوات لتحقيق التفوق الذاتي، ولكنه أيضًا قد يحذر من “القطيع الرقمي”، حيث يؤدي السعي وراء الشهرة والانجراف مع التيارات الشعبية إلى تهميش الفردانية الحقيقية. فهل تكنولوجيا التواصل الحديثة تسهم في خلق “الإنسان الأعلى” الذي تحدث عنه نيتشه، أم أنها تسير بنا نحو المزيد من التفاهة والانسياق الجماعي؟
لو كان نيتشه حاضرًا اليوم، كيف كان سيحلل الحرب في غزة؟ على الرغم من أنه لم يكن مهتما بالسياسة بالمفهوم التقليدي، إلا أن فلسفته تدور حول صراعات القوة والأخلاق. الصراع الفلسطيني-الصهيوني هو، في جوهره، صراع على القوة والسيادة والوجود.
من خلال منظور نيتشوي، قد يُنظر إلى هذا النزاع على أنه تعبير عن إرادة القوة المتجسدة في محاولات الأطراف المختلفة فرض هوياتها ورؤاها على الواقع. قد يجادل نيتشه بأن الحرب ليست مجرد صراع سياسي أو ديني، بل هي تعبير عن الحاجة الإنسانية الأساسية للهيمنة والسيطرة.
أما إذا نظرنا إلى مسألة الوجود الفلسطيني من منظور نيتشوي، فإن فكرة “الحق التاريخي” التي تعد أساسًا للمطالبة بالوجود الفلسطيني قد لا تحظى بأهمية كبيرة في فلسفة نيتشه. نيتشه كان ناقدًا للأخلاق التقليدية التي تعتمد على الأفكار الثابتة أو الروايات التاريخية، وكان يرى أن القوة والصراع هما المحركان الحقيقيان للتاريخ.
من هذا المنطلق، قد يرى نيتشه أن “الحق التاريخي” ليس مقياسًا حاسمًا، بل هو جزء من سرديات تُستخدم في الصراع. وبالتالي، فإن الوجود الفلسطيني، مثل أي وجود آخر، هو تعبير عن إرادة جماعية للبقاء والتفوق، وليس مجرد مطالبة تاريخية. نضال الفلسطينيين قد يكون، في عين نيتشه، تعبيرًا عن إرادة القوة التي تسعى إلى إثبات الذات وتحدي قوى أكبر. إنها إرادة الحياة في مواجهة التهديدات، وهي الإرادة التي يعتبرها نيتشه الأساس الحقيقي للقوة والاستمرار.
إرادة القوة التي تحدث عنها نيتشه لا تعني بالضرورة السيطرة على الآخرين، بل القدرة على تجاوز الذات وتحقيق التفوق الذاتي. في عصر التكنولوجيا الحديثة والحروب، يمكن أن نرى هذا المفهوم على مستويين: الأول هو الصراع الفردي داخل كل شخص ليكون أكثر من مجرد مستهلك للمعلومات أو متلقٍ سلبي للأحداث؛ والثاني هو الصراع المجتمعي والدولي الذي يعكس تنافس القوى على الساحة العالمية.
في كلتا الحالتين، التحدي الذي يطرحه نيتشه هو كيفية استغلال هذه اللحظات من الاضطراب والتغيير لتحقيق القفزة النوعية نحو “الإنسان الأعلى”. فالإنسان الذي يتجاوز القيم التقليدية ويتحدى الواقع يمكنه أن يجد في هذه الفوضى فرصًا للتفوق والنمو، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
في النهاية، لو كان نيتشه حيًا بيننا، لكان قد رأى في التكنولوجيا الحديثة والحروب، بما فيها الحرب في غزة، فرصة لإعادة النظر في القيم الإنسانية، وتحفيز التفكير النقدي والشجاعة الفردية. إن فلسفة نيتشه التي تدعو إلى إرادة القوة والتجاوز الذاتي ليست مجرد تعبير عن الهيمنة، بل هي نداء لإطلاق العنان للإمكانات البشرية في مواجهة التحديات المعاصرة.
في قضية الوجود الفلسطيني، قد لا يعتمد نيتشه على مفاهيم الحق التاريخي كمعيار حاسم، بل كان سيرى في الصراع تعبيرًا عن إرادة الوجود والبقاء، وهو ما يمثل بالنسبة له قوة الحياة نفسها. إذن، الصراعات والتحديات ليست مجرد مآسي، بل هي فرص لنفكر بعمق ونسأل: كيف يمكننا أن نعيش بجرأة وإبداع في هذا العالم المعقد؟