سميرة عاشور.. رحلت قبل أن تزهر مدينتي…

بقلم: أمينة التوبالي
الصور بعدسة زليخة
أيها الماضي، لا تغيرنا كلما ابتعدنا عنك..
أيها الحاضر تحملنا قليلا
فلسنا سوي عابري سبيل..
الموت لا يوجع الموتى…يوجع الاحياء..
هكذا تكلم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وهكذا وصف الموت..
نعم، إنه موجع للأحياء…وموجع أكثر هذا الفقد المفاجئ.. الذي يحل دون سابق إنذار.. عفوا..ليس هذا جهل منا ولكنه اعتقاد دوما على أنه الموت مرتبط بالمرض والحوادث فقط… لكنه ليس كذلك، هو معنا دوما وأبدا، في كل لحظة وحين.. هو الحقيقة الوحيدة القطعية.. وما سواه تفاصيل..
كانت الصدمة موجعة ومفاجئة ونحن نستفيق ذات صباح على خبر رحيل صديقتنا المناضلة الشامخة سميرة عاشور، عشنا معها أجمل اللحظات، رحلت في عز الشباب والعطاء…نامت ولم تستيقظ.. كانت التزاماتها كثيرة ذاك الصباح…. لكنها نامت ولم تستيقظ …خطفها الموت ولم تترك لها فرصة الوفاء بما التزمت به…
نامت ليلتها بعد أن بعثت لكل الأحباب والأصدقاء، بطائق تهنئة بمناسبة عيد المولد النبوي…نامت ورحلت فكانت تلك رسائل وداع..
وداعا سميرة…
تعرفت على سميرة عاشور، أول مرة في دورات تكونية نظمها المعهد الجمهوري الدولي بأحد فنادق الرباط عام 2008 تتعلق بموضوع “تقنيات التواصل السياسي والإعلام”، ضمت نخبة من ممثلي الجماعات المحلية بالرباط في لقاء مع بعض الإعلاميين. كانت الدورات تنظم يومي السبت والأحد، واستمرت لمدة شهرين تقريبا. كانت حينها سميرة مستشارة جماعية بمقاطعة أكدال_الرياض، سعدت وأنا أرى شابة مهندسة في الثلاثينات من عمرها تدخل غمار الانتخابات الجماعية 2007 . كما سررت لأنها المرة الاولى التي تقتحم فيها في تلك الفترة، النساء المجالس الجماعية. اعجبت بهذه الشابة ذات الكفاءة العالية بصفتها (مهندسة معمارية)، وكانت أصغر المشاركين من الحقل السياسي وقتها، خاصة وأن المجالس الجماعية كانت حكرا على الرجال وغالبيتهم بدون شواهد تعليمية…
كانت سميرة أنيقة وراقية في حديثها ومظهرها، دائمة الابتسامة، أحبها الجميع، تصغي أكثر مما تتكلم.
كنت اتابعها وهي ملتزمة بأداء وظيفتها الانتخابية، قادت حملة نظيفة وكانت حريصة على تتبع مختلف أنشطة مقاطعة أكدال _الرياض…
سوف نلتقي مجددا في فضاء جمعية “جسور ملتقى النساء المغربيات”، وسوف أشتغل بجانبها في إطار مشروع ائتلاف “المناصفة دابا ” وأيضا من خلال مشروعها ” الرباط مدينة بدون عنف” لفائدة النساء والفتيات. هذا المشروع الذي تنوعت فقراته والذي كان بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة – مكتب المغرب – وبتعاون مع السلطات المحلية بالرباط. الجميل في هذا المشروع، هو تعدد فقراته، وكان من ضمن الفقرات إعادة الاعتبار لأزقة المدينة العتيقة للرباط. وسيلاحظ زوار هذه المدينة ومن خلال الصور المرفقة في هذه الورقة، التحول الكبير الذي عرفته أزقة المدينة العتيقة، التي اكتست حلة جميلة بعد صيانتها وتنظيفها وإنارتها وتزيينها بألوان جذابة وتطريز جوانبها بالورود والمزهريات ومشاتل النباتات.. وكان شعار حملات هذا البرنامج الذي امتد لشهور ” أزهر مدينتي…”.
هذا البرنامج التطوعي الذي كانت وراءه سميرة عاشور، نوهت به ساكنة المدينة العتيقة، وانخرط فيه نساء ورجال، شباب وأطفال، الكل ساهم في إضفاء جمالية على هذه الفضاءات التاريخية وحولت أزقته إلى تحف فنية.
أستحضر هنا، شهادات لنساء من ساكنة المدينة العتيقة بالرباط، صرحن بها خلال زيارة وفد عن هيئة الامم المتحدة للمرأة بحضور المديرة التنفيذية السيدة “فومزيلي ملامبو نوكا”، التي كانت في زيارة للمغرب على هامش أشغال” المنتدى العالمي الخامس للمدن والمساحات العامة الآمنة”، وذلك أيام 26-27-28 فبراير 2020،حيث عبرت جل النساء القاطنات بتلك الازقة وأغلبهن تجاوزن الستين عاما، عن امتنانهن لهذه البادرة، التي جعلتهن يعدن الى ديارهن وبيوتهن العتيقة بعد أن غادرنها مرغمات، بالنظر لحالة التهميش والإهمال التي طالت الأحياء والظلام الذي سادها، ولم تعد آمنة. وتحولت هذا الأحياء قبل مشروع إعادة الاعتبار للمدينة، أحياء مهجورة. وحكت النسوة كيف أن أغلبية الساكنة الرباطية انتقلت للعيش مع الأبناء في أحياء اخرى، وأخريات بحثن عن منازل جديدة، لكن قلوبهن جميعا ظلت دوما تحن لتلك الأزقة، التي تحمل ذكريات الطفولة وتاريخ الآباء والأجداد. إضافة للعلاقات الإنسانية بين الجيران والمفتقدة في الأحياء الحديثة.
فمشروع تهييئ المدينة العتيقة، لم يسهم في تهيئة تلك الفضاءات وحسب، بل ساهم في عودة إعمار تلك البيوت بعد هجران أهلها، وبات الإقبال عليها يتزايد، وهناك من جعل من بيته دارا للضيافة، تستقطب السياح مغاربة وأجانب.
كانت سميرة سعيدة بهذا الإنجاز، وهذا النجاح، وكانت أمنيتها أن تنقل التجربة إلى كل أحياء الرباط، بل كانت تأمل إلى نقلها وتنفيذها في كل المدن المغربية العتيقة منها بالخصوص.
وكم سعدت حين أسرت لي في احدى المرات، أنها أعجبت ب”العيون” مدينتي، وتفكر في تنفيذ مشروعها هناك، لكنها رحلت قبل أن تزهر مدينتي.
اشتغلت سميرة أيضا على موضوع آخر، يتعلق بالفضاءات العمومية المراعية لمقاربة النوع وهي المناضلة التي تحمل هم الحضور النسائي في المنشآت العمومية احتراما للمواثيق الدولية التي التزم بها المغرب، والمتعلقة بمكافحة كل اشكال التمييز ضد النساء.
رحلت سميرة سيدة الظل، وعلى جدول أعمالها عدة مشاريع التزمت بها لصالح النساء والشباب والأطفال، ايمانا منها بأنهم هم الأمل والمستقبل. وهم صناع التغيير.
تركت سميرة بصمتها في دروب المدينة العتيقة وفي كل الفضاءات التي ترافعت فيها من أجل القضية النسائية وقضايا العدل والمساواة ورحلت تاركة لنا رسائل عديدة، أهمها أن الإنسان مجرد عابر وعليه أن يترك أثرا إيجابيا في مجتمعه مهما قل شانه أو كثر سيبقى خير شاهد على عبوره من هنا..
ذاك ما قاله شاعر الأجيال محمود درويش:
أيها الحاضر تحملنا قليلا
فلسنا سوي عابري سبيل..
نسأل الله لها أعلى مراتب الجنة وأن يحقق رجاؤها في فلذات كبدها ليليا وعايدة لجفالي وأن يلهم كل أهلها واحبابها الصبر والسلوان .
وانا لله وانا اليه راجعون..