
بسمة نسائية/ ثقافة/ إصدارات
أصدر الاعلامي عبد المجيد الحمداوي كتابا في خمسة أبواب، تحت عنوان” ولد حبيبتي.. إعلامي بالصدفة.. حظ يعقوبي”، تناول فيه مسار حياة من طفولة شقية إلى تقاعد غير مريح، مرورا من فترة دراسية مفصلية، كاد جزء منها يعكر صفوة حياته الجامعية بداية الثمانينات، ويعيق مسيرته المهنية.
اختار ابن يعقوب المنصور، من أصل تاوناتي/تازي عنوان الكتاب الصادر عن دار الوطن للنشر والصحافة بالرباط، تكريما لوالدته ومن خلالها زوجته وباقي الأمهات، وحْبيبتي هي الأم البيولوجية، التي تحملت مشقة التربية، لم تظهر على قسمات وجهها ملامح العبوس، ولم تغادر شفتاها الابتسامة البريئة ولم يخلو قلبها من حنان الأمومة، وأبرز الكاتب الراوي معاناة الأم في صمت لإسعاد الأبناء والوصول بهم إلى شاطئ النجاة.
على صفحات بيضاء، رقصت أنامل الكاتب على حبل الحظ والفرصة، تنبش بلهفة في ذاكرة بلا حدود، مستحضرا خواطر أملتها أحاسيس من ماضي دفين، صعب فيه تحديد أصول والد اليعقوبي، عكس والدته حْبيبتي.
يسرد لنا اليعقوبي قصة حقيقية، مغزاها تكريم والدته “حْبيبتي” نطق أولى أحرفها صبيا، لرد الاعتبار لأم قديسة قوامها الفضيلة ووالد عصامي سماته التحدي، لم يجعله الانتماء الطبيعي للأدغال تاونات وتازة لا شقيا ولا محروما، فمن قدر اليعقوبي أن يبعث من رماد حي شعبي، ومن حسن حظه، أن يقضي مآرب نبيلة بفضيلة الصبر.
قدم “إعلامي الصدفة “إبداعا أدبيا من جيل معاصر، تميز بشهادات نساء ورجال السياسة والإعلام والمجتمع المدني في حق اليعقوبي المحظوظ، وسافرت الذاكرة بواسطته في فصول ومسار طويل استقام في طفولة أدغال يعقوب المنصور بالرباط فانعطف في سن الرشد بمراوغاته وشيطنته ثم انزلق مغامرا في معمعة حركة طلابية بعواصف مطاردات أشباح، فلت منها طالبا وإعلاميا ورب أسرة. وفي وقت متقطع صامت، هام اليعقوبي متأملا في مقاصد عبارات ضخمة نظير الديمقراطية وحقوق الانسان والانتخابات، وتداعياتها في سنوات الرصاص من اعتقالات عشواء ومحاكمات صورية وسجون ومعتقلات سرية منسية.
خلال منتصف الثمانينات، كادت أشباح الليل أن تغتصب حرية طالب لم يمتلكها بعد. لم يتمرد حينها ولم يقم بأعمال جنونية، بل استسلم أمره للحظ والقدر. رماه القدر، بعد ذلك، من مدرس حر إلى رحاب صاحبة الجلالة، ولم ينته مصيره في ضيافة ما وراء القضبان.
وفي أواخر الثمانينات، سقط اليعقوبي سهوا في مكاتب رتيبة، حرر فيها على أعمدة صحيفة ورقية يمينية، مقالات تحت سلطة المراقبة. أجرى حوارات مع شخصيات مهمة، من بينهم رموز دولة، وغطى أحداث اجتماعية سياسية ونقابية وندوات فكرية وتواصلية لجمعيات حقوقية. رغم ما بذل الصحفي من جهد مضني، متجنبا الأفكار المرتبطة بالإيديولوجيات التي تخلق المتاعب، لم تشفع السنين المتعاقبة للتألق أكثر.
في بداية مساره الاعلامي، استعمل وسائل تقليدية من أقلام وأوراق وآلة التسجيل وقليل من الحاسوب. وفي مكاتب دواوين مكيفة، اشتغل بوسائل تكنولوجية عصرية لصياغة بلاغات معالي الوزير. بعد قضاء مدة زمنية في مكاتب الدواوين، وقبل الإحالة على التقاعد والتعاقد مع ملله بسنتين، اجتاح وباء كورونا، وتحرر ولد حبيبتي من جنون الحجر الصحي، بتنشيط حلقات برامج حوارية عن بعد.
يروي الكاتب بأسلوبه الخاص، كيف انتقل من تعليم أولي في كتاب قرآني إلى مدرسة عمومية ومن إعدادي بمحاسن الدراسة ومساوئ الابتلاء إلى ثانوي بين العلوم التجريبية والاقتصاد، ثم الجامعة بتقلباتها، ومن الإجازة إلى الماستر ثم الدكتوراه، وكيف أيضا جمع طالب جامعي بين الدراسة والتدريس والإعلام والأسرة، وما لحقتها من أحداث طرد ومطاردة. وقبل أن تهدأ العاصفة، انضم إلى حزب يميني، واشتغل في مؤسسة لسان حاله.
هبت رياح متقلبة على شاب مراهق اكتمل تعليمه الإعدادي والثانوي، إما بصدفة طائشة أو حظ تائه، اشتغل الحاصل على شهادة البكالوريا في الاقتصاد في عطلة صيفية وسط نفايات الخيول. يلج اليعقوبي الجامعة، لكي تبدأ قصة محنة طالب في سنته الأولى مع رجال الظلام. حصل على شهادة جامعية بدون آفاق وشهادة ماستر بدون مسؤولية إدارية، وبحث عن شهادة دكتورة في سن التقاعد، لكن مهما علت درجات الشواهد، يظل اليعقوبي إعلاميا يتجمد في حاله، حذرا من صقعات أسلاك الجرائد الكهربائية.
يسلط الكتاب الضوء على طريق إعلامي مليء بمنعرجات، فياض بمقالب ودسائس الحاقدين والناقمين، ويطلق العنان لسرد تداعيات محاكمة صورية كادت أن تلقيه في غياهب زنزانة “معتقلي الرأي”، وآثارها على نفسية ابن الأدغال الذي عاش وقتها أحداث “كوميرة”، وخلال تلك الفترة، شاعت أغاني ملتزمة وقصائد شعرية زجلية تقدمية، شكلت متنفسا آخر لليعقوبي للبوح بنقائص الحرية ونواقض الديمقراطية وحقوق الانسان. وبنظريات المادية الجدلية والصراع الطبقي والليبرالية المتوحشة، تصارعت الأفكار، في وقت وجد طالب يافع نفسه في حضن الممنوع من السياسية.
سعى ولد حبيبتي إلى الحرية بالرغم من ألم جروحها، تجاوز طفولة طائشة بتأني وسلام. في وقت مبكر، تأثر بطقوس بوذا وماركس. وفي محطة أخرى، تأثر بالأتقياء والصالحين. وفي ريعان شبابه، سقط اليعقوبي في تخوم الكثبان بخلفيات سياسية من فكر اشتراكي وشيوعي وقليل من المحافظين. وفي صمت سقط اليعقوبي سهوا في جب الحظ، لم يقض ليال صيف حارق في ضيافة صاخبة، ولم يترك أشباح الظلام تكسر مستقبله، ولم يتلوث عقله فساد الظلاميين.
في مستهل الثمانينات، تغذى شاب بلا انتماء حزبي من أبجديات سياسة ممنوعة، قادته إلى جوار نيرانها. ترشح الطالب بكلية الاقتصاد بالرباط باسم لائحة “رفاق الشهداء” لعضوية في مكتب فرع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. ولج الاشتراكية الماركسية من أبوابها الضيقة ولم يخطر بباله أن اليسار خط أحمر عند حماة مقدسات الوطن، ومن بوابة الاعلام تأقلم بشكل طبيعي مع رجالات وشخصيات، وزراء وبرلمانيين وأمناء عامين وإعلاميين وحقوقيين ورواد من المجتمع المدني. أهلته للمشاركة في لعبة ديمقراطية، برمز سياسي إداري، كسب فيها الخزي والعار ولم يكسب مقعدا انتخابيا.
يسرد الاعلامي جزءا من وقائع وأحداث عن حياة ولد حبيبتي وبعض تفاصيلها من داخل الأدغال وخارجه. في آخر فصول مسار مهني يطل على التقاعد، لم يستوعب ولد حبيبتي بعد أن ما يحدث له يرتبط بإرادة الصدفة وعزيمة الحظ. بالرغم من هلاك الزمن وضيق الحاجة، بالصبر ختم مشواره الأكاديمي بدكتوراه في الاقتصاد وفي مشواره الإعلامي مديرا للنشر لموقع إلكتروني “برلمان نيوز” ورئيسا لتحرير جريدة الحركة بمباركة قيادة جديدة للحزب، عائدا إلى أصله بعد أن فُصِل مكرها.