
بسمة نسائية/ منبر بسمة
بقلم: عبد الرفيع حمضي
روعة حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024، لم تنل منه امطار أمسية الجمعة التي انطلقت خفيفة، وكلما كان الحفل يتقدم ويزداد تشوقا كانت الأمطار تتحول من قطرات إلى زخات فسيلان وكانّها مبرمجة سلفا لمواكبة العرض الرائع وغير المسبوق في تاريخ هذه الألعاب. حيث لم تختار العبقرية الفرنسية، الملعب وممراته لمشاركة 6800 رياضي من 205 دولة، بل اختارت نهر السين seine مع دمج أهم المعالم التاريخية الباريسية لتقديم استعراضات ولوحات فنية فريدة وخالدة.
ونهر السين جغرافيا هو نهر طوله 775 كلم، يقطع فرنسا من منبعه بمنطقة بوجني شرق البلاد ليصب في قناة بحر المانش غرب فرنسا.
لكن مادام “حتى زين ما نقطتو لولا “كما يقول مثلنا الشعبي المغربي، فما أن انفض حفل الافتتاح والعالم لازال منبهرا برقي وجودة العرض حتى تحركت الأقلام وارتفعت أصوات دينية وأخرى سياسوية، موجهة سهامها لبعض فقرات الافتتاح وخاصة ما اعتبر مس بالمسيحية من خلال لوحة محاكات “العشاء الأخير”le dernier dîner التي أبدعها الفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي سنة 1498 والموجودة حاليا بكنيسة سانتا ماريا ديلي غراسي بميلانو والتي تجسد آخر وجبة ليسوع عليه السلام مع مورديه وتلامذته حيث قدم لهم خلاصة تعاليمه، قبل ان يتم اعتقاله ومحاكمته وصلبه. وهو حدث شديد الأهمية إذ عليه أسس سر القربان في المسيحية.
فمحاكاة شخوص هذه اللوحة بنهر السين في حفل الافتتاح، بإقحام المثلية ليس كاختيار شخصي لهوية جندرية ولكن كإيديولوجية لمعيرة المثلية اجتماعيا norme sociale.
ولعل هذا الأمر اخرج عددا من الكنائس التي أعلنت عن غضبها إضافة إلى عدد من السياسيين بالدرجة الاولى.
ومما لا شك فيه ان ازدراء الأديان أمر مرفوض، سواء تعلق الامر بالمسيحية أو بغيرها، مع العلم أن الإسلام ورموزه أصبح من أكثر الأديان التي تتعرض للإساءة في الغرب.
لكن ما أثار انتباهي وغيري فيما وقع، هو تلك الردود الفعل الهادئة لكل المنتقدين، وهم يعبرون على استيائهم لما حدث، كما أن الجهة المنظمة لم تعاند وتتحدى “وتطلع الجبل” بل قدمت ما يكفي من الشروحات والسياقات وطبيعة العمل الفني مع الاعتذار لكل من شعر بالإساءة لمعتقده، رغم أن القصد لم يكن هو الإساءة. وبذلك اغلق الملف وانطلق الجميع يتمتع بالأولمبياد.
لم يخون أحد ولم يصلب أحد، ولم تشعل نيران ولم تخرق أعلام ولم تقطع الطرقات. فكم هو جميل تدبير الخلاف بالحوار والإقرار والاعتذار.
مع الاشارة أن نهر السين نفسه الذي أعيد له الاعتبار اليوم كفضاء للفرح وليشهد العالم على ذالك لم يكن كذلك دائما. فالتاريخ شاهد ويسجل في يوم 1572/08/24م وقعت بباريس مدبحة القديس برثولماوس Massacre de la Saint-Barthélemy حيث قام الجيش بأمر من ملك فرنسا شارل التاسع ووالدته كاترين دي ميديشي بابادة كل المسيحيين المعتنقين للمذهب البروتستانتي، في مدبحة القديس برثولماوس Massacre de la Saint-Barthélemy . ويحصي المؤرخون ان عدد الضحايا تجاوز بكثير ثلاثين ألف. كلهم تعفنت جثثهم وتم قذفها بنهر السين الذي حملها إلى غية مصبه.
والان ها هو هذا النهر يعود إلى طبيعته منبعا للحياة وليس مصبا للموت.