مي زيادة..فراشة الأدب وأيقونة الحركة النسوية العربية

بسمة نسائية/ مبدعات
“مبدعات” ركن جديد ينضاف إلى أركان ” بسمة نسائية” يسلط الضوء على أسماء نسائية أبدعت أدبيا وفكريا وثقافيا وفنيا، فكن بالفعل نساء خالدات ومؤثرات
سفرنا اليوم، مع مسار مي زيادة رائدة الكتابة والحركة النسوية العربية
*كان لمي وجبران خليل جبران عالَماً قويّاً يدعو كلّ واحد منهما فيه للبحث عن (الله) في قلب الآخر..
مي زيادة، هي الشّاعرة والأديبة الفلسطينيّة واللّبنانيّة وإحدى الشّخصيّات النسائية العربية التي برزت في تاريخ الأدب العربيّ النسائي. فكانت عَلَماً مشهوراً في النِّصف الأول من القرن العشرين. عرفت بإنشائها لصالون أدبيّ خاصّ بها تحت اسم “ندوة الثّلاثاء”، لكنها عرفت أيضا كبطلة لأشهر وأغرب قصة حب في تاريخ الأدب العربي، جمعت بينها وبين جبران خليل جبران.
لم يكن اسم “ميّ” هو الاسم الأصليّ لها، إنّما هو الاسم الذي اختارته لنفسها، أمّا اسمها الأصليّ فهو “ماري”، واختيارها لاسمها يعود لكون اسمها الأول إفرنجيّ وغير مألوف عند مسامع العرب، في حين أنّ اسمها الذي اختارته عربيّ وخفيف على مسامع الأذن وسهل النُّطق كذلك، بالإضافة إلى أنّ هناك العديد من الأسماء التي سُمّيت بها ميّ، مثل: إيزيس كوبيا، وعائدة، وكنار، وشجية، والسّندبادة البحريّة الأولى، وأيضاً مداموزيل صهباء، وخالد، ورأفت، وكانت ميّ توقّع على المقالات والقصص التي تكتبها بهذه الأسماء. وتختلف الأسماء عندها باختلاف أحوالها، وتُشير إلى ذلك فيما كتبته في رسالتها الأولى لجُبران خليل جُبران، وذلك عام 1921م:
“أُمضي مي بالعربيّة، وهو اختصار اسمي، ويتكوّن من الحرفين الأول والأخير من اسمي الحقيقيّ الذي هو ماري، وأُمضي إيزيس كوبيا بالفرنجيّة، غير أنّ هذا لا أسمى ولا ذاك، إنّي وحيدة والديّ، وإنْ تعدَدَت ألقابي”.
وُلِدت ميّ زيادة في فلسطين في مدينة النّاصرة تحديداً، وذلك في عام 1886م، والدُها هو إلياس زيادة، أصلهُ من لُبنان، أمّا أمُّها فهي نُزهة معمر، والتي تُعدّ من أصحاب الأدب الذين يُعنَون بحفظ الأشعار، وقد حظيت الأديبة مي زيادة باهتمام كبير من والديها كونها الابنة الوحيدة لهما بعد وفاة أخيها، وممّا قالته أمُّها فيها: “إن من ينجبْ ميّاً، لا يُنجبْ غيرها”.
تُعدّ ميّ زيادة ممّن أبدعوا في مجال الصّحافة، فكانت تكتب المقالات التي لها الأثر الاجتماعيّ في الصّحافة المصريّة، وتتميّز مقالاتها بأسلوب مُختلف وخاصّ بها؛ فكان أسلوباً مليئاً بالعاطفة، والمشاعر الجيّاشة، بالإضافة إلى ما تملكه من الثّقافة الواسعة سواء العربيّة أو الأجنبيّة، ومن الصُّحف التي كتبت فيها صحيفة “المحروسة”، وكان لها فيها باب خاص وثابت اسمه “يوميّات فتاة”، وكانت تستعرض في هذا الباب مقالاتها بطريقة جريئة وتُمضي في نهايتها بأسماء مُستعارة، وممّا أضافته ميّ إلى عملها في الصّحافة إنشاء باب جديد في صحيفة “السّياسة الأسبوعيّة” وتسميته “خليّة النّحل”، وكان هذا الباب قائماً على أساس الأسئلة والأجوبة الصّادرة ممّن يُريد من قُرّاء الصّحيفة أن يسأل سؤالاً أو يُجيب على سؤال مطروح، أمّا وظيفة الصّحيفة في هذا الباب فكانت باختيار ما هو مُناسب من هذه الأسئلة والأجوبة وإعادة صياغتها بشكل جيّد.
*صالون “فراشة الأدب”:
لقبت مي ب”فراشة الأدب”، بعد أن عَمَدت إلى إنشاء صالون أدبيّ خاصّ بها تحت اسم “ندوة الثّلاثاء” وذلك في عام 1912م، واعتمدت بيت أبيها القائم في القاهرة مقرّاً لهذا الصّالون لتُعقد النّدوة فيه أسبوعيّاً، حيث نالت التّقدير والاحترام الكبير من حاضريها لِما تتمّتع به من ذكاء وشجاعة في إدارة النّدوة بأدب ورُقيّ، واستمرّ عقدُ هذه النّدوة عشرين عاماً مُنذ نشأتها.
وكان العقّاد قد قال فيها: “ووُهِبتْ ما هو أدلّ على القدرة من ملكة الحديث، وهي ملكة التّوجيه، وإدارة الحديث بين مجلس المختلفين في الرأي والمزاج والثّقافة والمقال”، وممّن اشتهرت أسماؤهم في ارتياد صّالون ميّ الأدبيّ: أحمد زكي باشا، وأحمد شوقي، وعبّاس محمود العقّاد، وطه حسين، ومصطفى صادق الرّافعيّ، والباحثة مَلك حقني ناصف، وكانت هي المرأة الوحيدة في الصّالون.
* من مؤلّفات الأديبة لميّ زيادة :
– كتاب المساواة ويُعنى بالتّطور الاجتماعيّ للإنسانيّة، والأنظمة الاجتماعيّة السّائدة في العصر الحديث.
– باحثة البادية: هو كتاب على هيئة دراسة نقديّة تُقدّمها الأديبة ميّ عن الكاتبة المِصريّة مَلَك حنفي ناصف، وتدرُسها فيها دراسة مُحكَمة.
–رجوع الموجة: هي رواية تتناول فيها مي الحديث عن أشكال فُقدان قيم الحُبّ والوفاء، من خلال قصّة “مرغريت” التي أحبّت زوجها “ألبير” حُبّاً كبيراً وأنجبا ابنتهما “إيفون”، لكنّ هذه القصّة لم تكتمل إذ يقابلها زوجها بخيانته لها، وغيرها من المؤلفات …
*مي والقضايا النسائية العربية:
كانت مي منفتحة على الثقافات كافة، وكان اختلافها عن حياة النساء فى مصر وقتذاك ملحوظاً، إذ كانت مثقفة ومتحررة إلى حد بعيد، وبرغم التفاف النخبة حولها. وعرفت بتواصلها مع العديد من النّاشطات في الحراك النّسائيّ في كلّ من مِصر، ولبنان، وسوريا، وكان الطّابع العامّ لرسائل ميّ أن تكون نقاشاً حول القضايا التي تُعنى بالمرأة، ومنها: النّهوض بالمرأة، والمشاركة الحياتيّة للمرأة، بالإضافة قضايا الإصلاح المُجتمعيّ، والوُجود الإنسانيّ.
رجال في حياة مي:
-عباس العقاد
كان عباس العقاد من أكثر الشخصيات وضوحًا فى مشاعره تجاه “مي” وكان شديد الغيرة عليها، رغم أن مى لم تكن تبادله نفس المشاعر، بل كانت مذبذبة، حتى ذهب قلبها إلى رجل أخر وهو “جبران خليل جبران”، فكتب العقاد يقول لها، “كانا يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل ولا يزيدان، وكان يغازلها فتومئ إليه بإصبعها كالمنذرة المتوعدة، فإذا نظر إلى عينيها لم يدر، أتستزيد أم تنهاه، لكنه يدرى أن الزيادة ترتفع بالنغمة إلى مقام النشوز”.
– مصطفى عبد الرازق
لم يكن وقار الشيخ مصطفى عبد الرازق، شيخ الأزهر آنذاك، حصناً آمناً من جاذبية مي. فأخذ يحبها بصمت وحياء ولم يعبّر عن حبه بالكلمة المسموعة، واكتفى بالتعبير بالكلمة المكتوبة عبر بعض الرسائل التى كان يراسلها بها وبلغت ثلاثاً إحداها أرسلها من باريس واثنين من ألمانيا. بالإضافة إلى تلك الزيارات التى كان يحرص عليها فى صالون مى زيادة يوم الثلاثاء من كل أسبوع.
وتعد الرسالة التى أرسلها عبد الرازق من باريس حجة قوية للاستدلال على ما فى قلبه من حب، إذ بلغ فيها ذروة الرقة، وجنح فيها إلى حرارة التعبير حين قال: “وإنى أحب باريس، إن فيها شبابى وأملي، ومع ذلك فإنى أتعجل العودة إلى القاهرة، يظهر أن فى القاهرة ما هو أحب إلى من الشباب والأمل”.
– ولي الدين يكن
أعلمت الهوى الذى أخفيه؟ أى سر يا مى لم تعلميه؟”، بيت شعر صرح فيه الشاعر الجريء ولى الدين يكن بحبه لمي. لكن شقيقه يوسف حمدى يكن حذف كلمة “مي” من البيت وأضاف “فى القلب” وهو يجمع ديوان شقيقه..
ويعتقد كثيرون أن مى مالت إلى ولى الدين إشفاقاً عليه، ليس أكثر، إذ كان مريضاً بالربو، وهو مرض لم يكن له علاج آنذاك. لكن هذا الطرح تنفيه حقيقة العلاقة، لأنها كانت تلتقيه كثيراً، وكانت تشكو إليه ما يلم بها من أزمات نفسية، وقد زارته وهو مريض، فأنشد فيها شعراً قال فيه:
” “تبدت مع الصبح لما تبدى، فأهدت إلى السلام وأهدى
تقابل فى الأفق خداهما، فحيت خدّاً وقبلت خداً
لقد بدل الله بالبعد قرباً، فلا بدل الله بالقرب بعداً
تعالى فجسى بقلبك كبدي، إن كان قد أبقى لى الهجر كبدا..”.
* مي زيادة وجبران خليل جبران:
تعتبر قصة الحب بين مي زيادة وجبران خليل جبران، من أشهر وأغرب العلاقات في تاريخ الأدب العربي، دامت تلك العاطفة بينهما زهاء 20 عاما، دون أن يلتقيا إلا في عالم الفكر والروح، إذ عاشا حالة عشق عن بعد لسنوات طويلة دون أن يكتب لهما لقاء مباشرا. بدأت شرارة الحب بين مي زيادة وجبران خليل جبران بعد قراءتها لقصة الأجنحة المتكسّرة التي نشرها في المهجر عام 1920م، حيث أرسلت له برسالة أولى تُعرب فيها عن إعجابها بهذا النتاج الأدبي، لتتوالى بعدها الرسائل التي بدأ من خلالهما حب المذكورين على هيئة خطابات أدبيّة ورقيّة، ومُراسلات فِكريّة وروحيّة أفضت في نهايتها إلى تآلف روحي ّحقيقيّ بينهما، فقد كان كلّ واحد منهما روحاً للآخر، بأحلامهما وأفكارهما، والنّاظر في الرسائل المُتبادلة بينهما يعلم حقيقة هذا الحبّ الخالص الذي تجاوز الحواجز الزّمانيّة والمكانيّة والحِسّيّة، ليكوِّن لهما عالَماً قويّاً يدعو كلّ واحد منهما فيه للبحث عن (الله) في قلب الآخر، خاصّة أنّ النّزعة الصّوفيّة كان مُلازمة لجبران في حياته، وممّا يُدلل على ذلك قوله لمي في إحدى رسائله: “هُنا نستطيع أن نتشوّق حتى يُدنينا الشّوق من قلب الله”.
ومع تبادل هذه المُراسلات المليئة بالإعجاب والإلهام الأدبيّ، عمد جبران خليل جبران إلى تجميع خطاباته ورسائل حبّه للأديبة مي زيادة ضمن كِتاب أسماه “الشُّعلة الزّرقاء”.
أحبّت مي رجلا واحدا هو جبران خليل جبران عَلى الرُّغم مِن عَدم لِقاءهما، حَيثُ دامَت المُراسلات بَينهما عِشرين عاماً منذ عام 1911 وحتى وفاة جُبران في نيويورك عام 1931، ولَم تتزوج ميّ بأحدٍ من بَعد حُبها لجبران، وظلت وفية لهذا الحب، فَعاشت فترة عَصيبة وعانَت من الوحدة بعد وفاة أحبائها ومن كانوا سَندها في الحياة.
رحلة الفقد والمعاناة
في 1929، توفي والدها؛ وبعد فاجعة فقدان الأب رحل حبيبها جبران خليل جبران عام 1931، تاركا في قلبها فراغا من الحب، وقبل أن تلملم جراحها، ودّعت والدتها الحياة في في عام 1932، فدخلت في عزلة نفسية وانزوت عن الناس بسبب أعوام الحزن التي عاشتها.
مي زيادة “فراشة الأدب” انتهت في مستشفى المجانين
في عام 1936، زارت أهلها في لبنان بعدما طلبوها، وعندما أرادت الرجوع لمصر منعها الأقارب وحجروا على أموالها، واستجلبوا طبيبا للتوقيع على دخولها مستشفى الأمراض النفسية المعروف “بالعصفورية”، وفيه شعرت بالظلم والاضطهاد، فزادت متاعبها الصحية.
وعن معاناتها النفسية وظلم الأقارب لها كتبت في مذكراتها “باسم الحياة ألقاني الأقارب في دار المجانين.. أحتضر على مهل وأموت شيئا فشيئا“.
وبعد انتشار خبرها في الصحافة، تدخل بعض زملائها السابقين من مصر وسافروا إلى لبنان حتى أخرجوها ورجعت لحياتها، وألقت محاضرات في الجامعة الأميركية في بيروت، ومن ثم رجعت لمصر وأصيبت بالفصام.
وفي يوم 19 أكتوبر 1941 توفيت مي في مستشفى المعادي بالقاهرة، جراء إصابتها بالإعياء والإغماء الشديد. وفي اليوم الموالي لوفاتها دفنت في مقابر الطائفة المارونية بالقاهرة، ولم يخرج في تشييع جنازتها سوى عدد قليل من الأشخاص.