
بقلم: هاديا سعيد
لا أذكر أي رقم يحمله هذا البيت الذي أنتقل إليه الآن. أعرف أني تنقلت بين بيوت وبلدان عديدة وكانت أيامي دوارة كالفصول. اكتشفت أخيرا أيضا أن عمرنا يمكن أن يمضي كالآتي: ربع لطفولة تبقى هي الجنة سواء عشناها في قصر أو كوخ، وربع لأحلامنا الشابة سواء كانت جموحة أو كسولة أو خيالية وربع في زواج أو عمل قد نكتشف فيه أننا لم نحسن الاختيار أو رضينا بالمقدر أو أننا أحسن من غيرنا بكثير ولله الحمد..
ويبقى الربع الأخير الذي يحملنا إلى العودة والاستعادة ضمن مربعات النضج والكبر والشيخوخة. لا أدري متى وكيف وصلت إلى هذا المربع الأخير رغم أني ما زلت أعيش طفولتي بسرية تامة ولدي أحلام تصل إلى حدود الجموح لولا حضن الكنبة الفضية الأثيرة التي تنقلت معي بين البيوت وأصبحت ظلا لأمي. اكتشف أن لديها قدرة عجيبة على تحويل مسار غضبي أو انفعالي أو زعلي أو بكائي إلى ما يشبه قطعة حلوى في فم رضيع يتدرب على المضغ والتذوق. أصبح الطفلة وتصبح كنبتي قطعة الحلوى. يا الله كم يصبح العمر جميلا في لحظات تمر أمام عيني كبهجة عيد.. فستاني الأخضر الصيفي. تصفيق بنات مدرستي لحصولي على المرتبة الثانية في التعبير على مستوى مدارس عاصمة بلدي. يد الحب التي تلمس أصابعي المثلجة لأول مرة. محبس الزواج وهو يسهر معي ليلة عقد القران. مراقبتي لأنفاس مولودتي الأولى للتأكد أنها بخير. إخفاء طفلي في بطانية سميكة لدى زيارة الطبيب. وصية جدته أن لا أدع الغرباء يعرفون أنه صبي منعا لحسد العيون والنفوس..
في حضن كنبتي الفضية كان عمر آخر يمضي بي كل يوم. يجمع المربعات ويبعثرها وأكتشف قدرات عجيبة لحضن أمي الجديدة وهي تذكرني بأبي وأخوتي وأولادي و.. فأتشبث بها وأعود وأعود وأعود. أدرب نفسي على العودة كما تدربت على سياقة إرجاع السيارة الى الخلف لإيقافها في المساحة المحددة باستواء تام.
“لكنك لست سيارة ولست أنا المساحة المحددة” همست لي الكنبة. سمعتها. لم أتخيل ولم افترض بل سمعتها وكانت تلك المرة الأولى التي بدأت معها صداقتنا العميقة والمتينة. كنت أدرك ذلك كلما أصبح مقعد كنبتي لينا وكلما غاص حضنها قليلا هي التي أخبرتني عن مربعات العمر وعن الولادة والنمو والتطور والتدهور والعودة. نظرت إليها الآن بين أكداس الصناديق التي تنتظر إفراغها وتوزيعها في البيت الجديد..
تساءلت في أي مربع من عمرها أصبحت كنبتي الحبيبة؟ مربع الأحلام أم اكتشاف الواقع أم الرضوخ والتسليم؟ كأني سأتعرف على مربعي الحقيقي من إجابتها. سوف يحدث ذلك. سوف يحدث ذلك. فقط أريد لهؤلاء العمال أن ينتهوا من إفراغ قطع الأثاث وتوزيعها.حين يحدث ذلك سأرتاح وأسهر مع كنبتي. هل هناك أجمل وأفضل من حضن أم؟
صاح إبني وهو بين العمال عند باب مدخل البيت الجديد: “ماما الكنبة لا يمكن إدخالها من الباب. للأسف هي أعرض مما كنا نظن، لكن لا تزعلي سأحضر لك كنبة جديدة بديلا لها وتكون على قياس الباب والبيت”..
2 فبراير 2022