في لقاء حول” ديوان الآيسي الكدورتي بين الجد والحفيدة”:
قراءة في الكتاب من انجاز الأستاذة عائشة العلوي لمراني

في لقاء صديقات العمر الجميل، قدمت الأستاذة عائشة العلوي لمراني قراءة في كتاب “ديوان عبد الرحمن الآيسي الكَدروتي بين الجد والحفيدة”..للأستاذة أمينة أوشلح..
ولتعميم الفائدة نعيد نشر هذه الورقة القيمة، التي افتتحت بها الأستاذة عائشة هذه الجلسة الثقافية والفكرية التي احتضنتها بمنزلها الكاتبة لطيفة حليم علوي..
نص الورقة:
في البداية أهنئ الصديقة العزيزة أمينة أوشلح على هذا الإنجاز القيم، وأثمن عاليا الثقة التي منحتني وهي تضع بين يدي كتابها لأقدم قراءة أولية أتمنى أن أوفق فيها في التعبير عن شعوري أولا إزاء تجربة إنسانية متفردة، وعن تقديري للمجهود العلمي والمعرفي وطاقة الإبداع التي ألبست العمل رداء جماليا فحاز الحسنين القيمة العلمية والقيمة الأدبية.
تشرع صفحات الكتاب بدءا من العنوان مسالك متعددة لمقاربته، العنوان الأول بالخط العريض ( ديوان عبد الرحمان الآيسي الكَدروتي)، مع الخلفية التشكيلية لمخطوطات الديوان تدعونا إلى اعتبار الكتاب بحثا أكاديميا، وذلك ما جعل المقاربات التي تناولته تكاد تضعه في باب البحوث الأكاديمية المشتغلة على تحقيق المخطوطات، مع طرح كل الإشكاليات الخاصة بوضعها في سياقها التاريخي، زمانا، ومكانا، سياسة واقتصادا، مجتمعا وثقافة .. ومحاولة رصد المؤثرات المختلفة والعلائق الممكنة. غير أن العنوان الثاني ” بين الجد والحفيدة ” يجعل من بين وهي: ظرف مُبْهَم، لا يتبين معناه إلا بإضافته إِلى اثنين فصاعدًا؛ كما ورد في “معجم المعاني الجامع”، هو هنا مضاف إلى اثنين: الجد والحفيدة، غير أن المعنى لا يتبين إلا بعد تصفح الكتاب ف”بين” التي تقرب المسافة الزمنية والمكانية بين طرفي العلاقة لا تلبث أن تصبح بينا بمعني البعد الزماني والمكاني وهذا يتأكد على صفحة الغلاف المتضمن لصور المخطوطات ويعكسه الخط ونوع المادة المكتوبة بها، والقلم المنحوت من القصب، مما يدل على انتمائها إلى عقودا من الزمن تفصل بين الجد والحفيدة، أما المكان فهو ثابت والمسار الدراسي للكاتبة المتخصصة في الأدب العربي إبداعا ونقدا يبرر حدوث اللقاء عبر ديوان الجد.
يبدأ الكتاب بتقديم مقاربتين الأولى للأستاذ د. عباس الجراري وقد أثنى على المجهود العلمي الذي قامت به الباحثة ودوره شخصيا ـ أستاذا للأدب المغربي بالجامعة ـ في تعميق الشعور لدى طلاب اللغة العربية بكلية الآداب بالخصوصية المحلية للمغرب، والتشجيع على البحث العلمي لملء ثغرات تاريخنا الإقليمي، مع الإشارة إلى أن البحث الذي قامت به الأستاذة أمينة يندرج ضمن هذا السياق، ومع تقديري لأستاذنا الجليل الذي هدانا إلى ثراء وغنى تراثنا الأصيل وخاصة من خلال كتابه ” القصيدة” الذي بدأ به المشروع، أقف عند مصطلحي المحلية والإقليمية كمصطلحين قاما على نقد القومية، التي كانت ضمن بنية الإديولوجيا التي وجهت الحركات التحررية في العالم العربي، وكانت من بين الاختيارات السياسية بعد الاستقلال فاتجهت نحو تحقيق مشاريع الوحدة.
وجهت نكسة 1967 الضربة القاضية لفكرة وإيديولوجية القومية، لترتد الدول الإقليمية إلى تاريخها المحلي، وإن كانت بعض التيارات السياسية السابقة قد استبقت التاريخ لتعلن إقليميتها مثل حزب الأمة في مصر، وبعد النكسة تعمقت الفكرة وبدأت بنقد التراث أي الخلفية الثقافية للمنطقة، فصدرت كتابات ـ على سبيل المثال لا الحصرـ : التراث والثورة لغالي شكري ، الثابت والمتحول لأدونيس، رباعية العقل العربي للجابري، وكتابات العروي، أما الماركسيون العرب فلم يتخلوا عن الفكرة القومية إذ كان نموذج الاتحاد السوفياتي وإن تعددت فيه القوميات، يجعل من فكرة الاتحاد اختيارا إديولوجيا يوحد الطبقة العاملة والمقهورين ويحقق التنمية الاقتصادية من المحيط إلى الخليج، وبانهيار الاتحاد السوفياتي ظهرت ملامح أخرى للقطرية القائمة على المصالح المحلية.
والمغرب الذي يوجد جغرافيا بين تياري هواء متعارضين الشرق والغرب، وتراث يذكر ولا يوثق كان لابد أن يصاب فيه التاريخ المحلي بما أشار الأستاذ الجراري في مقاربته.
أما تقديم الأستاذ الحسين آفا فقد وضع الكتاب في سياق البحث في التراث خاصة المنتمي إلى منطقة سوس من منطلقين العلاقة العاطفية والمعرفية بين الجد والحفيدة ورد الاعتبار إلى المنطقة ومدى مساهمتها في بناء المغرب الموحد والغنى بتراثه الثقافي والمعرفي المتنوع.
بين الجد والحفيدة:
الإشارة:
الإشارة ومضة روحية، وإلهام ووحي يهدينا إلى شخص أو إلى مكان ما، يقول أبو عطاء الله السكندري:
” من أذن له بالتعبير: فهمت في مسامع الخلق عبارته، وجليت إليهم إشارته” ويطلق على ذلك في الصوفية: التعبير المأذون، والإشارات بقدر ما كانت هادية الصوفية إلى منطقة التجلي فشرقوا في اتجاهها وغربوا، فقد أهدت المبدعين شوارد القول والكتابة، ونجدها حاضرة في الملاحم، وفي حكايات ألف ليلة، واعتمدتها الكتابات السردية الحديثة وعلى سبيل المثال لا الحصر أشير إلى رواية باولو كويهلو ” الكيميائي”…
نقرأ في توطئة الكتاب ( الصفحة 23/ الفقرة الأولى) ” هذا الكتاب جاء إلي، وفرض نفسه علي ، ووجدتني تائهة بين خيوطه العنكبوتية، لم أفكر فيه قبلا …” بعد وفاة الجد بأكثر من أربعة عقود، تتوصل الحفيدة بحقيبة خضراء ـ تستقر في درج من أدراج ذاكرتنا الجماعية ـ ولكنها في الكتاب إشارة خضراء لدخول عالم الجد واللقاء به عالما جليلا يرحل من خلال شعره ويسائل المطايا ومن يحدوها أين مقر الأحبة:
قل للمطي ومن لها يحدو أين المقر لهم وما القصد
الرحلة:
الإشارة بشارة، وبداية الرحلة خطوة أو مخطوطات تدعو الكاتبة إلى فك شفرتها حتى تتبين الطريق إلى هناك حيث الوطن الآخر، قد يكون في حجم الكف ومثل الكف شقته خطوط هي خطوط الهوية.
استقطبت المدن المركزية آلاف الأسر من مناطق نائية، أو مدن أدار التاريخ عنها وجهه، غير أن الوطن البعيد جغرافيا يستقر بجوار القلب، وملء الذاكرة، يأتي في شكل لهجة أو لثغة حرف، ويستقر في العادات والطقوس اليومية وبناء علائق قائمة على الوشائج الأسرية والعشائرية والقبلية، تمتن الرحلات المتفرقة إلى ذلك الوطن الأواصر، وتقوي حبل التواصل، تشير الكاتبة إلى رحلات سابقة لمنطقة سوس خلال طفولتها، غير أن رحلتها بعد إشارة الجد وفك الأختام عن ديوانه، رحلة مختلفة.
الدهشة، الرغبة، الشوق والحنين، تقلص مسافة البين بين الحفيدة والجد، قبل الإشارة كانت بينهما قرابة الرحم، الآن بينهما قرابة الإبداع والمعرفة والقيم، وحتى يتم اللقاء لابد أن يتعرف الجد على الحفيدة، وهنا يعنى الكتاب بتقديم نبذة عن تكوينها الثقافي والأكاديمي وعلاقتها بالتراث المحلي، الأستاذة أمينة أوشلح تنتمي لجيل عاصر التغيرات السياسية والثقافية العميقة التي عرفها المغرب التي واكبت المطالبة بالاستقلال، وتكوين الأطر لتحل محل أطر الآستعمار، وتدبر شؤون الدولة الإدارية والسياسية والتربوية، فكانت المدارس الوطنية هي المشاتل التي انتشرت في المدن ذات المواقع الاستراتيجية، الرباط، سلا، الدار البيضاء، فاس، مراكش … وغيرها، وقد كانت موازية لأشكال أخرى من التعليم ( التعليم العتيق، مدارس الأعيان، مدارس البعثات، ومدارس المغاربة ذوي الديانة اليهودية).
الرحلة إلى بيت الجد رحلة تنتهي فيها الطريق المعبدة على أبواب تافراوت، وتبدأ رحلة أخرى عبدتها خطوات الإنسان ومطاياه، وانزوى المكان وأهله في زوايا عصر قديم يفاجئ الكاتبة بمرجعيتها الثقافية والحقوقية والسياسية. أولا: بالصورة التقليدية للمرأة حتى عند القائمين على شؤون التعليم، الكلام يوجه للرجل ويغفل وجودها ولا تثير الانتباه إلا عندما تعبر عن معرفتها بالكتب المرصوصة في مكتب الفقيه المسؤول عن المؤسسة التعليمية (إيمي أكشتيم )، وثانيا: طرق التعليم التقليدية القائمة على حفظ النصوص واستظهارها على ألواح بالرغم من توفر المؤسسة على كتب حديثة تتوسطها كتب طه حسين.
مع كل رحلة غرائبية كان على البطل أن يطرق عدة أبواب ويجتاز كثيرا من المغامرات قبل أن يصل إلى القصر المرصود، وكذلك كانت رحلة الكاتبة، إلا أن هذه الرحلة هي واقعية غرائبية، رحلة إلى مكان معلوم للقاء بإنسان توفي قبل أربعة عقود.
يظهر الجد عندما تسلط عليه الضوء الكتابات التأريخية والتوثيق الأدبي للمبدعين في منطقة سوس، أهمها كتابات العلامة المختار السوسي، ويختفي كلما انحسرت مساحة الضوء وذلك راجع لعدة أسباب سردتها الكاتبة أهمها: الاعتماد على الرواية الشفوية، وعدم الاهتمام بالتوثيق وبعد المنطقة عن المدن المركزية .. غير أن الحفيدة لم يثنها ذلك عن لقاء الجد يكفيها أنه لم يخلف الموعد وجاء يحمل ديوانه بيمينه.
الديوان:
الديوان هو مساحة الضوء التي هدت الكاتبة إلى مقام الجد الجليل، فقيه أديب، وعالم، قاض ومدرس زائر للمدارس العتيقة المجاورة لكَدروت يمتح من علمه أطفال وشباب سوس يتحلقون حول مجلسه همته منوطة بنظم عذب القصيد ونثر درر القول.
والديوان مخطوطات حالت ألوانها وضاعت بعض حواشيها، فتناولتها الكاتبة بروية وصبر ولملمت الأطراف بحذق ودربة ومراس، وصنعت منها حلة بهية، وحديقة فيحاء ننعم قارئات وقراء بالمقام الطيب في قرية أكَدروت الغناء، والتي تبدو حسب توصيف الكاتبة لمعمارها مثل قرى اليمين، وقد يكون للتلاقح الثقافي خلال الأزمنة التاريخية القديمة وراء هذا الشبه، فالأمازيغ يعود تاريخهم الحضاري إلى أكثر من ثلاثة ألف سنة قبل الميلاد وتوافدت على بلدهم حضارات متعددة، وثقافات متنوعة، جاءت من الشرق والغرب، كما أن ممالكهم امتدت شرقا وجنوبا، والعلاقة باليمن تمت ربما بعد هجرة اليهود إلى شمال إفريقيا بعد السبي البابلي.
والديوان أيضا موضوع للدراسة النقدية للكاتبة فقد تناولته لغة وتناصا إبداعيا، وأغراضا، وذات شاعر لا يقف بباب مادحا، ويطرق أبواب الشعر العربي عبر عصوره منذ المعلقات حتى شعر فحول الشعر العباسي.
والدراسة الوافية للكاتبة لا تترك لدارس إلا الشعور بالإعجاب لتمكنها العميق من النظريات النقدية القديمة والحديثة خاصة في تناولها التناص في قصائد الديوان تناصا ذاتيا فالقصائد تغرف من النبع نفسه فيقع فيها حافر قصيدة على حافر الأخرى، وغير ذاتي إذ يحيلنا القاموس اللغوي والدلالات على بيئة الشعر العربي القديم.
وكما أشرت في البداية لولا العنوان الثاني لاعتبرنا الكتاب بحثا أكاديمية وأطروحة جامعية، فالحفيدة في العلاقة الثنائية في هذا العنوان تقدم للجد الديوان وقد غادر الحقيبة الخضراء ليلتحق بعصر مختلف عصر التقنيات الحديثة المعتمدة على ثقافة الصورة والعالم الرقمي، فيغادر الجد على جناح شعره “كَدروت” ليحلق عاليا في سماء الكونية المعرفية والإبداعية.