انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
أخبار بسمة

رمضان في كانتونات رقمية..

أين منا ذلك الزمان؟

بسمة نسائية/ ممنوع على النساء

بقلم: عزيز لمسيح

يكاد أغلب الناس اليوم يقضون أيامهم ولياليهم الرمضانية غارقين في لجج هواتفهم النقالة، في جزر منعزلة عن الحياة الحقيقية الجديرة بأن تعاش، مستغرقين في عوالم افتراضية، منفصلين عن الواقع ودينامياته الملموسة..في “ملهاة” إنسانية معاصرة ما فتئت تنأى بالكائن البشري بعيدا عن كينونته الجوهرية، وجوهره الإنساني الفطري..

في مجرى هذه التحولات، تغيرت الحياة في رمضان عما كانت عليه سنوات خلت، بروائحها وطقوسها الروحانية والوجدانية، وحكاياتها وأجوائها الدينية الاحتفالية والتعبدية، وبساطتها وتلقائيتها الإنسانية، كما احتفت بها أحياء شعبية بمدن تاريخية عريقة في مغرب ما بعد الاستقلال، حين كان البلد يسعى لبناء دولته الحديثة المستقلة، وترسيخ هويته الدينية وانتمائه الحضاري..

أين منا ذلك الزمان؟ وكيف ذاك البهاء الرمضاني أمسى ذكرى وخبرا كما تقول الأغنية؟ وكيف مضت معه تلك الحكايات والذكريات والطقوس النوستالجية كما ارتشفت مباهجها أرواحنا الطفولية، في حارات تنضح بالمحبة الوارفة والتلاقي الإنساني السمح، والتزاور والتسامح الرئيف، حين كانت الممارسة الدينية أقرب إلى الفطرة والسليقة، دانية من الله، وبمعيته، بلا تزلف ولا وجل، ولا رياء ولا كذب… بعيدة عن التكلف والتباهي والتحجر، والسياسة والإديولوجيا…

أين ذاك الزمان الذي كنا نتسابق فيه إلى مساجد الهدى، أبرياء مسالمون، خشع قلوبنا، وأفئدتنا تواقة تهفو للغرف من معين النبع الإيماني والإحساني الرباني لهذا الشهر الفضيل، في مشاهد نورانية كانت تطبعها نفحات الإيمان، والدعاء والخشوع والذكر الصادق ، والاستغفار وتزكية النفس بفيض إلهي، تزينها أصوات قرآنية شجية وصلوات زكية مبتهلة..

نساء ورحال بسطاء كانوا يصنعون فرح المغاربة، ويدخلون البهجة على قلوبهم، وينشرون الجلال والجمال، وينثرون بمراقيهم ومناقبهم فضائل ومكارم رمضان الذي تتزين به القلوب، وتتعطر بعبق الذكر الحكيم ومسكه الإيماني، الأرواح المحبة الصادقة الصافية: المقرئون عبد الرحمن بن موسى وعبد الحميد احساين وعبد الباسط عبد الصمد، والعلامة المكي الناصري.. والنقشبندي بابتهالاته وتواشيحه.. وأعلام الطرب الأندلسي والملحون بوصلاتهم الرائقة الماتعة…

وهؤلاء كانوا يبثون المسرات والمتعة الجمالية، من خلال كوميديا ودراما إذاعية وتليفزيونية أصيلة، بعيدة عن الابتذال والسخافة، أبدعها حالمون، يعشقون الفن والحياة، بتفان ونكران ذات، وهم على سبيل الذكر لا الحصر: العصامي المبهر عبد الرؤوف ، وثنائيات “بلقاس وعبد الجبار الوزير” و”الزعري والداسوكين” و”بزيز وباز” و”قشبال وزروال”، و”عزيز سعد الله وخديجة أسد”، وبن إبراهيم، وعزيز موهوب وعبد الرزاق حكم، والدغمي ومحمد الحبشي ونعيمة المشرقي وحبيبة المذكوري والطيب الصديقي والطيب العلج ، وعبد الحق الزروالي وآخرون…

لقد أدت التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العميقة ، والتطورات الرهيبة والمتسارعة لتكنولوجيا الاتصال والتواصل التي شهدتها المجتمعات المعاصرة خلال العقود الأخيرة ، إلى تغير منظومة القيم ونمط الحياة الذي أصبح رهينة إيقاع التسارع الزمني المجافي لما يسميه ميلان كونديرا “البطء” ، وضحية ماكينة الاستهلاك وطاحونة السوق والرأسمال المتوحش، وتزايد الاعتبارات الفردانية، وتراجع أخلاق المروءة لصالح اعتبارات المصلحة الذاتية، تحول معها هذا الشهر الفضيل إلى مجرد موسم أو معرض للأذواق والأطباق الشهية والموائد المتنوعة.

لقد تم إفراغ رمضان، في الممارسة التعبدية والسلوكية اليومية، من بعده القيمي وجوهره الروحاني ومعانيه السامية، الداعية، على الخصوص، إلى خوض تجربة الحرمان الطوعي، بإيمان واحتساب، والرفع من منسوب الأخلاق الربانية النبوية، بالتربية وتزكية النفس…ف”من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه” كما جاء في الحديث النبوي.

وفي هذا السياق اجتهدت الآلة الإعلامية على تشكيل تصورات ومخيال جمعي لما ينبغي أن يكون عليه هذا الشهر الكريم، بالتركيز على الاحتفاء بمظاهره التعبدية الشكلانية، وطابعه الاحتفالي الكرنفالي الذي يجد له حيزا واستجابة واسعة في دراما تليفزيونية مبتذلة، ومواد وبرامج إعلامية استهلاكية، تختزله في بعده الغذائي الشهواني الذي كانت له نتائج وخيمة على الصحة العامة للناس، دون إيلاء الأهمية لجانبه القيمي الروحاني ، وتمثل منظومته التغييرية للنفس والمجتمع، ومبادئه الداعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحث على قيم العدل والعدالة والتضامن الاجتماعي، والإمساك عن  شرور الأعمال والسياسات، والشعور بآلام المحرومين، ومحاربة الظلم والطغيان، علاوة على تحرير الإنسان بإطفاء الشهوات، وتنقية الروح والجسد، والتخفف من ثقل الماديات، والارتقاء نحو حالة من الصفاء والهدوء والسكون، وتقوية أواصر التعاون والتضامن والتآزر، لبناء مجتمع متماسك متلاحم، مصداقا للآية الكريمة : “وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”.

وبدل أن يكون رمضان شهر العمل والتقوى بامتياز، أصبح معادلا، في الممارسة اليومية، للخمول والكسل، وضعف المردودية المهنية، والسلوكيات المشينة، وأشكال التعصب والغضب، والسهر والإجهاد الجسدي، وشهر الطقوس التعبدية الموسمية..

وإذا كان الناس في مراحل سابقة للغزو الرأسمالي النيوليبرالي الماحق وتفشي ثقافة السوق الاستهلاكية، قد ارتقوا بقلوبهم وأرواحهم في مناخ عام كان يحتفي بالندرة والبساطة والتقشف، واستعملوا أجسادهم في حركة دؤوبة وسعي للعيش بكفاف وعفاف ، فإن اطراد التغيرات السكانية والمجالية وحركة التمدين السريعة والهجينة وتداعياتها على حياة الناس، ورهن مصير الموظفين بقروض استهلاكية وترفيهية ، وأخرى لاقتناء شقق وسيارات، جعل حركة الناس متسارعة وإيقاع حياتهم آلي ونمطي، وحياتهم مقيدة وروتينية، ومعاناتهم متزايدة، وملاذهم الوحيد هواتفهم النقالة.

كل ذلك أدى إلى ظهور ظواهر وبائية ساحقة، وتنامي ضغوط وأمراض نفسية وانتشار القلق والانفصام والعصاب الاجتماعي، في سياق اتساع الفوارق الطبقية، وانسحاق الطبقة المتوسطة التي كانت تشكل المحرك الأساسي لإنتاج الفكر والمعرفة، وتضطلع بمهام التغيير ومعركة الحداثة والديمقراطية.

رمضان رقمي إلكتروني بامتياز: حركة محدودة مقيدة في الزمان والمكان، مجالها هاتف نقال، حياة رقمية افتراضية متعبة، ومصاريف متزايدة تبتلع مدخرات البيت، وإطار عمل روتيني يقتل الروح قبل الجسد، وانغلاق على الذات، وفقدان الثقة بالآخر، وتوبة متأخرة وهجرة يسارية مطردة ، مرتبكة وجديرة بالتحليل، نحو المساجد، وتراجع الحياة الفكرية والثقافية والإعلامية التي كانت تسم العقدين السبعيني والثمانيني على وجه الخصوص، من خلال الندوات واللقاءات والتظاهرات والأنشطة التي كانت تعرفها مقار الأحزاب والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني.

من رمضان الحياة المضمخة بتراب البلاد وأحلامها وحكاياتها التراثية وملاحمها التاريخية إلى رمضان بطعم إلكتروني رقمي، افتراضي بارد..

من موائد البساطة والأطباق الشعبية الطبيعية التي ما تزال روائحها عبقة في الوجدان: حريرة بنكهة خميرة وكرافس بلديين، وشريحة (تين مجفف) وتمر وشباكية ومخرقة وغرويش وسمن وزبدة بلدية، ومخبوزات وفطائر “المسمن” و”البغرير” ، إلى موائد التخمة والترف والتباهي الاجتماعي والاستهلاك التفاخري والتبذيري الشيطاني لطغمة، تسعى لتأكيد مكانتها الطبقية وسطوتها السلطوية، وسط جحيم أسعار لا يطاق ، وتردي اقتصادي ، وبلترة واسعة لمختلف الشرائح الاجتماعية.

غابت الجلسات العائلية بعد صلاة التراويح حول كأس شاي وحلوى “السفوف “أو “سلو”، وغابت معها الزيارات وذكريات الأحياء الشعبية المفعمة بالأمل والصداقات الجميلة، وحياة سياسية حركية، ودينامية إعلامية وثقافية مشعة ومؤثرة، ومسارات طلابية فاعلة.

اليوم يكاد التفاعل الاجتماعي يختزل في هذا الشهر في التسوق والأكل، وباتت الحياة داخل الأسر أشبه بمقابر يسودها الصمت مع توافر وسائط التواصل الاجتماعي، خاصة الهواتف النقالة، التي أصبحت الكنتونات والمساكن الحقيقية للإنسان المعاصر بعد أن أتت على مكانة السمر والسهرات والتلاقي الإنساني المباشر، وتحولت إلى فضاء للتواصل والفرجة والمشاهدة والاستهلاك والحياة لافتراضية، بعيدا عن حرارة ودفئ الحياة الإنسانية المنسابة..

لا أحياء شعبية تضج بالحياة اليوم، وممارسة دينية شعبية بسيطة تجمع بين مظاهر التدين الفطرية والإقبال على الحياة بمتعة ورغبة حسية، لا برامج فنية أو ثقافية نابعة من هوية البلد وطموحه لتعزيز مساره الديمقراطي والتنموي..

لم يبق لنا إلا أن ننشد مع أم كلثوم:

يا فؤادي لا تسل أين الهوى .. كان صرحاً من خيالٍ فهوى

اسقني وأشرب على أطلاله.. وأروِ عني طالما الدمع روى

كيف ذاك الحب أمسى خبراً .. وحديثاً من أحاديث الجوى

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا