أزمة التعلّم: نظرة إلى تقرير البنك الدوليّ عن التعليم 2018
أصدر البنكُ الدوليّ في 26 سبتمبر الماضي تقريرَه السنويّ عن التعليم في العام 2018 تحت عنوان “أزمة التعلّم،” وفيه أعلن عن حقائق وأرقام مقلقة وواقع سوداويّ يعيشه ملايينُ الأطفال في مراحل التعلّم المختلفة في العالم الثالث. وقد تضافرتْ جهودُ عشرات المختصّين لإنتاج هذا التقرير الضخم الذي عرض المشكلات، واستشهد بالأدلّة المستندة إلى اختباراتٍ ومشاهداتٍ ميدانيّة، وحلّل المواقفَ التعليميّة بسُبلٍ علميّة، ثمّ أدرج توصياته للحكومات.
محاور التقرير
أفاد التقرير بأنّ التمدرس لا يعني بالضرورة التعلّم؛ فهناك فجوةٌ تعليميّة حقيقيّة يعانيها أطفالُ المدارس، وهي تشكّل حالةً من عدم التكافؤ، وتحرمهم فرصًا عادلةً للمستقبل. وركّز التقرير على غياب آليّات القياس في معظم الدول ذات المداخيل المتدنّية والمتوسّطة. وتضمّن إحصاءاتٍ عن أكثر من 600 مليون طفل في العالم لا يصلون إلى مستوى مهارات التعلّم الرئيسة (كالقراءة والكتابة والفهم والحساب بحسب المعايير الدوليّة للتعلّم)، ناهيك بـ260 مليون طفل حُرموا حقَّ التمدرس. وهذا ما يُعتبر ضربةً قويةً لأهداف التعلّم الأمميّة، ويضاعف الهوّةَ بين العالم المتقدّم والعالم النامي، ويُنذر بآثار قويّة في مستقبل هذه الدول الاقتصاديّ والاجتماعيّ. ولهذا صرّح رئيسُ البنك الدوليّ، جيم يونغ كيم، أنّ هذا التقرير يعلن عن “أزمةٍ أخلاقيّةٍ واقتصاديّة،” ودعا إلى التكاتف لإصلاح هذا الخلل.
كما أشار التقرير إلى فجواتٍ كبرى بين مختلف الطبقات الاقتصاديّة في بعض دول العالم، ولا سيّما الأفريقيّة والآسيويّة والجنوبأميركيّة وبعض الدول العربيّة. فبينما يحقّق الطلّابُ الأثرياءُ ناتجًا تعليميًّا مقبولًا، ينحدر أداءُ الطلاب من ذوي الأُسر الفقيرة في الدول ذاتها إلى معدّلات غير مقبولة؛ علمًا أنّ نسبة الطلّاب ذوي المستوى الاقتصاديّ المتوسّط إلى العالي في دول العالم النامي تشكّل أقلَّ من ربع معدّلات السكان في العالم ممّن هم في سنّ التعلم.
وقدّم التقرير مقارنةً في أداء الطلّاب بين الدول الغنيّة وأقرانهم من الدول النامية. فتبيّن أنّ المعدّلَ الوسطيّ لأداء الطلاب في الدول النامية هو أدنى بـ75% من أدنى معدّل أداء الطلّاب في الدول المتقدّمة، وفي دول أخرى أدنى بـ95%. وقد اعتمد التقرير على إحصاءات من مختلف الدول تُبيّن، مثلًا، أنّ 75% من الأطفال في الصفّ الثالث الابتدائيّ في المناطق الريفيّة في الهند غير قادرين على قراءة جملةٍ قصيرةٍ بسيطة بلغتهم الأمّ كما باللغة الإنجليزيّة؛ كما لم يتمكّن معظمُ الطلّاب في الصفّ التاسع في إحدى الدول الأفريقيّة من حلّ مسائل حسابيّة للصفّ الخامس. وهذا أمرٌ ينذر بتراكم الضعف التعليميّ لهذه الفئة في السنوات اللاحقة. فهناك نسبةٌ كبيرةٌ تتسرّب من مقاعد الدراسة بسبب الفشل التامّ في التحصيل، ونسبةٌ أخرى تصل إلى مرحلةٍ عليا ولم تكتسب بعدُ الحدَّ الأدنى المقبول من مهارات القراءة والكتابة والحساب وغيرها من مهارات التفكير الأساسيّة المطلوبة لميادين العمل ــــ ما يجعلها مقيّدةً بوظائف غير كافية للحدّ الأدنى من الظروف المعيشيّة المقبولة.
ماذا عن المستقبل؟
بالنظر إلى التغيّرات السريعة في مجال العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد، وما يترتّب عليها من مهارات متغيّرة ومتطوّرة في سوق العمل، فإنّ ناتجَ التعلّم في الدول النامية لن يتمكّن من اللحاق بركب المستقبل، ولا بالمتطلّبات الاقتصاديّة للمجتمعات النامية. ذلك أنّ الشركات التكنولوجيّة العملاقة تعمل على تطوير أنماطٍ من الذكاء الاصطناعيّ الذي سينافس الإنسانَ في الفترة الممتدّة ما بين العاميْن 2030 و2050، بحيث يشكّل تحدّيًا كبيرًا للمتعلّمين من كلّ المجالات وفي جميع دول العالم.
وعليه، فإنّ المستقبل الاقتصاديّ للعالم سيكون قائمًا على ذوي المهارات الذهنيّة العليا ومرونة التفكير والابتكار والحلول السريعة والقدرة على التعلّم، وهو تحدٍّ تواجهه الدولُ المتقدّمة حاليًّا في تطوير مناهجها وأنماط تعلّم طلابها. أمّا الدول التي أخفقتْ في تحسين تعلّم أبنائها فسوف تكون عرضةً لصعوباتٍ جمّة. لذا فإنّ التقرير يتنبّأ بفجوة اقتصاديّة أكبر بين الدول المتقدّمة والنامية خلال العقود القادمة إذا لم تعمل الحكوماتُ المعنيّة على توجيه كلّ مقدّراتها لخدمة التعلّم. وقد لفت رئيسُ المنظّمة الدوليّة للتنمية الاقتصاديّة والثقافيّة، أندريا شلايشر، إلى أنّ دور الحكومات يتخطّى تخصيصَ الموارد الماليّة للتعليم، ودعا إلى الاستثمار في المعلّمين والمؤسّسات الإداريّة الراعية للتعليم، وإلى توجيه كافّة قدرات المجتمع والمؤسّسات السياسيّة والاقتصاديّة نحو دعم التعلّم. وأضاف “إنْ خُيّرنا بين تأهيل المعلِّمين وتأهيل الصفوف وتقليص عدد الطلاب فيها، فإنّنا من دون تردّد نختار تأهيلَ المعلّمين.”
كما يسلّط التقرير الضوءَ على حقائق مختلفة تزيد من أزمة التعلّم في هذه الدول، ومنها: عدمُ دمج الطلاب ذوي احتياجات التعلّم الإضافيّة في محور اهتمام المعلّمين والإدارات؛ وتهميشُ احتياجات المعلّمين؛ وعدمُ تأهيلهم لاستخدام البرامج التكنولوجية التي تساعد على تحسين مهارات الطلاب؛ وتدنّي أوضاعهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة بما يجعلهم غيرَ قادرين على تلبية احتياجاتهم، وغير قادرين ــــ من ثمّ ــــ على القيام بواجبهم.
التوصيات
يخصّص التقرير جزءًا للحلول والمقترحات التي تدعو الدولَ الناميةَ إلى التعامل معها بجدّيّة، وهي مجزّأة إلى ثلاثة محاور.
أولًا، قياس آثار التعلّم للتمكّن من تحديد الخلل في المناهج والبرامج التعليميّة بهدف معالجتها. فبينما يدور النقاش في الدول المتقدّمة حول إمكانيّة تقليص التقويم لفسح المجال أمام زيادة فترات التعلّم، نجد أنّ الدول النامية تعاني نقصًا في التقويم وأدوات القياس؛ ما يحرمها من الإلمام بجوانب الضعف الأساسيّة لمتعلّميها ومن اتّخاذ القرارات الصحيحة للإصلاح التعليميّ.
ثانيًا، يدعو التقرير إلى العمل على ضمان جهوزيّة المتعلّمين للتعلّم ابتداءً من المراحل المبكّرة بما يشمل حقوقَهم في الغذاء والرعاية الأوليّة والصحيّة والأسريّة، وإلى تطوير عمل المدارس لتصبح أكثرَ ملاءمةً لتنمية احتياجات المتعلّمين.
ثالثًا، يدعو التقرير إلى خلق منظومةٍ داعمةٍ للتعلّم، وإلى إزالة العوائق الاقتصاديّة والسياسيّة التي تعوِّق عملَ المدارس.
وعلى الرغم من هذه الحقائق المؤلمة، يُظهر التقرير التطوّرَ الذي حقّقته بعضُ الدول في فترةٍ زمنيةٍ قياسيّة، مثل فييتنام وقطر وكوستاريكا، التي بذلتْ حكوماتُها جهودًا جدّيّةً، وطوّرتْ من النظام العامّ، بحيث تتداخل كلُّ العوامل السياسيّة والاقتصاديّة والفنيّة لخدمة التعلّم.
إشكاليّة التنمية ومساءلة حول أوجه المسؤوليّة
على الرغم من أنّ التقرير أغفل أزمةَ ملايين الأطفال الذين حُرموا مقاعدَ الدراسة بسبب الفقر والحروب، فإنّه لم ينسَ تحديدَ المسؤوليّات الجسيمة الواقعة على عاتق المؤسّسات الوطنيّة. فما لا شكّ فيه أنّ الاستثمار في التعليم يترك آثارًا إيجابيّةً طويلة الأمد في الاقتصاد والتنمية، ويقلّص معدّلات الفقر والبطالة والأمراض والجرائم، ويزيد من فرص العمل والتطور الإنسانيّ والاجتماعيّ ــــ هذا إنْ توفّرتْ له الإرادة السياسيّة والاستراتيجيّات والمواردُ الملائمة.
يجدر القول إنّ توصيات التقرير مفيدة كإطارٍ فنّيٍّ وتعليميٍّ في معظم هذه البلدان. لكنّ الأمانة تقضي بأن نطرح أسئلةً على منتجي هذا التقرير حول الأسباب الكامنة وراء التأخّر التعليميّ في دولٍ معظمُها ــــ إنْ لم يكن جميعُها ــــ على قائمة الدول المقترِضة من البنك الدوليّ نفسه، وتعاني مديونيّةً متناميةً لسداد قروضها، بل تضطرّ غالبًا إلى أن تخضع لإملاءاتٍ سياسيّةٍ لا تحقّق بالضرورة مصالحَها العليا. فما لا يخفى على المتابع أنّ البنك الدوليّ، بمجمل قراراته، يعبّر عن مصالح الدول الأغنى والأكثر تحكّمًا في قراراته، إلا وهي الدول الصناعيّة، أمثال الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان. وفي نظرةٍ أعمق إلى الدول النامية التي تعاني خللًا في واقع التعلّم، نجد أنّ معظمَها هو من الدول التي عانت الاستعمارَ سابقًا، أو السيطرةَ الاقتصاديّة والإنتاجية على مقدرّاتها؛ ما يجعل المستفيدَ الأولَ من مواردها هو الجهات المانحة للقروض.
هي “أزمةٌ أخلاقيّةٌ وسياسيّة” بالفعل، وتحتاج إلى توجّهٍ سياسيٍّ من قبل الحكومات النامية نحو سياسات محلّيّة تُبنى على المصلحة الوطنيّة وحدها. فالحلّ يكمن في إرادةٍ وطنيةٍ واعية تدرك أنّ الاستقلال السياسيّ والتطوّر البشريّ والاقتصاديّ يبدآن بتنمية التعليم والتعلّم والاستثمار في الإنسان.
قائمة المصادر
البنك الدولي، “تقرير التنمية الدولية 2018: التعلم لتحقيق أهداف التعليم.” التقرير الكامل. البنك الدولي، واشنطن. رخصة المشاع الإبداعي ( IGO. 3.0)
الدائرة الإحصائيّة في اليونيسكو ودائرة المحاسبية في التعليم، www.unesdoc.unesco.org
إيمان الغماري، دور البنك الدولي للتعمير والتنمية في تنمية الدول النامية www.doniaalwatan.com
هنري بيرسون وأندريا شلايكر، مقابلة مباشرة على موقع المنظّمة الدوليّة للتعاون الاقتصاديّ والتنمية https://www.facebook.com/pg/theOECD/videos/
أحمد فرحات، صندوق النقد الدوليّ ودوره في تحديد سياسات الدول (مدوّنة سياسيّة)، Ahmadfar.blogpost.qa
المصدر: موقع الاداب