رحل البابا فرنسيس… مات ضمير العالم
بابا الفقراء والسلام.. ودرس إنساني للعرب والمسلمين

بسمة نسائية/ عزيزة حلاق
أسماء لا تُنسى
في هذا الركن، نستحضر اليوم وجها ترك أثرًا خالدًا في الضمير الإنساني، اسم لم يكن مجرد عابر في الذاكرة، بل كان منارة أخلاقية وله مواقف مُلهمة.
هو اسمٍ استثنائي… رجل دين تجاوز حدود الكنيسة ليخاطب العالم بلغة الرحمة والعدل.
نستحضر سيرة البابا فرنسيس الذي لم يكن فقط بابا الفاتيكان، بل كان صوت الفقراء، وضمير المقهورين، ونموذجًا نادرًا في التواضع والنزاهة.
رحل “بابا الفقراء”، تاركًا خلفه إرثًا إنسانيًا نادرًا. رجل دين عاش البابوية كخدمة لا كسلطة، رفض القصور والألقاب، واختار البساطة والتواضع. دافع عن الفقراء والمهمشين واللاجئين، وواجه العالم بجملة صادقة: “هذا الاقتصاد يقتل”. لم يكن بابا الكاثوليك فقط، بل ضميرًا حيًا للإنسانية جمعاء. وقف إلى جانب العرب والمسلمين أكثر من بعض قادتهم، وآمن أن الرحمة لا تحتاج إلى ترجمة.
وداعا “بابا الفقراء والسلام”
رحل البابا فرنسيس (1936–2025)، فغاب صوت الضمير الحيّ الذي ناصر الفقراء والمهمشين، وذكّر العالم بأن الرحمة أسمى من كل العقائد والمصالح.
رحل دون أن يترك ممتلكات أو ثروات. فبعد وفاته، كُشف أنه لم يخلّف وراءه سوى 100 دولار أمريكي! أمر لا يُصدّق، لكنه ترك أكثر من ذلك، غادرنا تاركًا وصية إنسانية لا تُقدَّر بثمن. ففي عصرٍ أصبح فيه الثراء هدفًا نهائيًا لدى كثيرين، يرحل البابا فرنسيس وقد خلّف بصمة أبدية، دون أن يسعى يومًا لإثراء نفسه.
لقد ترك ثروة أخلاقية… ترك درسًا في التواضع، وخلّف رؤية للخدمة الحقيقية، ألا وهي خدمة الآخرين.
رجل دين من طراز نادر، آثر أن يُعرف بلقب “بابا الفقراء”، لا “الحبر الأعظم” ولا “سيد دولة الفاتيكان”، رغم أن كل تلك الألقاب كانت بين يديه.
الأرجنتيني البسيط، القادم من قلب أمريكا اللاتينية، عاش البابوية كخدمة لا كسلطة، كعطاء لا كامتياز، فشكّل في حياته وموته درسًا عميقًا في التواضع، الرحمة، والكرامة الإنسانية.
منذ لحظة تنصيبه، كسر البابا فرنسيس جدران البروتوكول. رفض الإقامة في القصر الرسولي المحاذي لساحة القديس بطرس، وفضّل عليه بيت القديسة مرثا، وهو نُزُل صغير لاستقبال ضيوف الفاتيكان، ليعيش في كنف البساطة.
وفي وصيته، أوصى أن يُدفن في سرية، بلا ألقاب ولا مراسم ضخمة، لأنه ببساطة كان يؤمن أن العظمة الحقيقية لا تحتاج إلى لافتات.
لكن ما جعله يستحق لقبه عن جدارة، هو مواقفه الجذرية إلى جانب الفقراء والمهمّشين والمهاجرين واللاجئين. لم يكن تعاطفه عابرًا أو شكليًا، بل مبدئيًا، علنيًا، وممتدًا. ناصر قضاياهم في خطبه، وقراراته، ورحلاته، وفي مواجهته لكبار الرأسماليين داخل الفاتيكان وخارجه. قالها بجرأة: “هذا الاقتصاد يقتل”، ودعا إلى اقتصاد يخدم الإنسان بدل أن يسحقه.
في مفارقة محزنة، وقف هذا الرجل القادم من الفاتيكان إلى جانب اللاجئين والمهاجرين العرب والمسلمين أكثر من بعض حكّامهم. دافع عنهم بصوت عالٍ، واحتضنهم، وذكّر العالم بإنسانيتهم، بينما استمر كثير من الخطابات الرسمية في التنصّل منهم، أو اتهامهم، أو تجاهل مأساتهم.
فرنسيس لم يكن بابا الكنيسة الكاثوليكية فقط، بل كان بابا الضمير الإنساني. لم يحصر دعوته في العقيدة الكاثوليكية، بل فتح أبواب الحوار مع المسلمين واليهود والبوذيين، وآمن بأن الرحمة والعدالة لا دين لهما.
دعا إلى التفاهم والتسامح، وذكّر العالم بأن الأديان، إن لم تُلهم الرحمة، تفقد جوهرها.
في زمن تتسع فيه الهوة بين الأغنياء والفقراء، وبين الشعائر والممارسة، يقدّم البابا الراحل درسًا عمليًا للأمة العربية والإسلامية: لا تكفي الخطابات، ولا الشكليات. ما يُحدث الفرق هو الوقوف الصادق إلى جانب الإنسان، أيًّا كان دينه أو لونه أو هويته.
لم يكن البابا فرنسيس يتحدث العربية، لكنه تحدث بلغة المنسيّين والمقهورين. لم يكن يعرف حروف العربية، لكنه فهم جوهرها حين نطق بلغة الضعفاء.
ولو كان بيننا اليوم، لربما همس لنا بقلبه قبل لسانه: “ابدؤوا بالرحمة… فهي لا تحتاج إلى لغات كي تُفهَم.”