
جرح في وجه مدينة سلا ..
حديث بسمة/ عزيزة حلاق
لم نكن نتخيل، نحن أبناء مدينة سلا العريقة، أن يأتي يوم نخجل فيه من قولنا: “نحن من أبناء سلا”. المدينة التي كانت تملؤنا فخرًا واعتزازًا، والتي لطالما تغنينا بأزقتها العتيقة ورونقها التاريخي، باتت اليوم تتصدر عناوين منصات التواصل الاجتماعي بوصف قاسٍ ومؤلم: مدينة الانحراف والإجرام.
حادثة الاعتداء الوحشي على نائب عمدة سلا، السيد محمد النجار، أمس الثلاثاء، هزّت الرأي العام، وجرى تداولها على نطاق واسع بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يستنكرون هذه الجريمة التي كان ضحيتها مسؤول محلي خرج في جولة تفقدية، ليباغته شخص ويطعنه بالسلاح الأبيض في قلب المدينة العتيقة، وسط ساحة سوق الغزل،
هذه الحادثة ليست إلا حلقة ضمن سلسلة متصاعدة من أعمال العنف والانفلات التي أصبحت المدينة تشهدها يوميًا. وهذا الاعتداء لم يحدث في زقاق مظلم أو في منطقة هامشية، بل أمام أعين الناس، في مكان يُعد جزءًا من ذاكرة سلا، وكان يُفترض أن يكون رمزا للأمان والانتماء.
المدينة العتيقة… تأهيل عمراني وبؤس إنساني
فرغم ما شهدته المدينة العتيقة من تأهيل عمراني، وتحسين للبنية التحتية، وترميم للأسوار والأبواب، وتبييض للواجهات والمحلات التجارية، فإن الواقع الاجتماعي لساكنتها ظل مهمّشًا: فقر مدقع، بطالة، تسول، انحراف، انتشار مرعب للمخدرات، وشباب تائه بين غياب الفرص وانعدام الأمل. يقضي أوقاته متكئًا على الحيطان، يلفّ الحشيش في واضحة النهار، أو يحتسي الخمر الرديء ليلاً.
في محيط أحياء وأزقة المدينة العتيقة، التي أهملتها السياسات التنموية والاجتماعية، نشأت بؤر توتر قابلة للانفجار في أية لحظة.
اليوم، صار الخوف رفيقًا دائمًا لسكان سلا. كثيرون منهم باتوا يترددون قبل التجول في أحيائهم، خاصةً ليلًا، مخافة الاعتداء أو السطو أو حتى القتل. لم تعد هذه حوادث معزولة، بل ظاهرة متكررة تستدعي وقفة صارمة وشجاعة من مختلف الجهات.
عن سلا التي تسكننا، وعن الاعتداء الذي تعرض له محمد النجار، كتبت ابنة المدينة جليلة العلوي بحرقة تقول:
سلا يا أمّاه، كيف أراكِ اليوم وقد اندثر كل جميل فيكِ؟ اغتُصب عِرضك، ودُنّست كرامتك، وأُهين أبناؤك، حتى صار الغريب يسرح ويمرح في شوارعك وكأنها ليست لك. أين هيبة المدينة؟ أين ذاك الأمن الذي كنا نعيشه بين أحضانك، وتلك الجيرة الصافية التي جمعت أبناءك كالإخوة؟
اليوم، أبناؤك يُعتدى عليهم أمام ناظريك، “يُشرملون” في وضح النهار، بينما أنتِ عاجزة، مستسلمة. كم هو مؤلم أن تُقابل كل تضحياتك بالعقوق والنكران.
ابنك الذي آمن بك وسعى لانتشالك من الغرق، فبذل جهده لجلب مستثمرين ومشاريع تنعش اقتصادك وتفتح فرص شغل لشبابك. وبدلاً من أن يُكافأ، كان جزاؤه الاعتداء ومحاولة إسكاته. ولولا لطف الله، لكنّا اليوم نرثيه.
أيها السلاويون الأحرار، أين أنتم؟ أين صوتكم في وجه هذا التسيب؟ أما آن الأوان لنقف وقفة حقيقية للمطالبة بالأمن لنا ولأبنائنا؟ لقد أصبحنا نُوصَف، ونحن في عقر دارنا، بأوصاف جارحة لا يليق بي حتى أن أكتبها..
هل نسيتم كيف كانت ليالينا تُزهر بالأفراح؟ كنا نخرج في مواكب العرس والختان نغني ونزور الأضرحة، تُفتح لنا الأبواب بالفرح والتهاني. أما اليوم، فصرنا سجناء بيوتنا، نستبدل أبواب العرعار الجميلة بأبواب حديدية، ومع ذلك لا تسلم من التخريب.
لك الله يا مدينتي
ولك الله يا أخي محمد النجار… الحمد لله على سلامتك، ومبروك نجاح العملية الجراحية. وشكرًا من القلب لابن سلا البار، الدكتور عمر الأزرق، الذي أنقذ ذراع أخيه.
سلا… المدينة التي تئن تحت وطأة الإهمال والعنف وآفة المخدرات..
كلمات الصديقة جليلة العلوي تختصر حال مدينة كانت تضج بالحياة، فصارت اليوم مدينة خائفة، مكبّلة، مشوّهة. البيوت التي كانت تُفتح لليالي الفرح، أُغلقت أبوابها بأقفال الحديد، والجيران الذين كانوا يتبادلون الحلوى والمباركات، باتوا يتبادلون الخوف والشكوى.
كان أهل سلا يخرجون في مواكب الأعراس والمناسبات ليلاً، يتبادلون التهاني والأهازيج، ويعودون دون خوف. أما اليوم، فقد صاروا سجناء خلف أبوابهم، يتمنّون أن تمر الليلة بسلام، دون صراخ أو طعن أو سرقة. الأمن الذي كنا ننعم به تلاشى، والانفلات بات واقعًا لا يُنكر.
من غير المقبول أن تتحول مدينة تاريخية مثل سلا، ذات الإرث الثقافي والحضاري العريق، إلى وكر للإجرام، بسبب غياب ردع قانوني فعّال، وتقصير في معالجة الأسباب الحقيقية لما يعيشه شبابها من انحراف وضياع.
السكوت لم يعد ممكنًا..
وإن نكتب اليوم عن هذا الواقع المرّ، فليس فقط من منطلق الغيرة على مدينتنا، بل من منطلق الرفض المطلق لهذا الواقع الذي لا يليق بنا ولا بتاريخ المدينة. سلا تستحق الأفضل، وساكنتها تستحق الأمان والكرامة.
فهل ننتظر مزيدًا من الضحايا لنُعلن أن الخطر بلغ مداه؟ أم نبدأ الآن، وبقوة، استعادة مدينتنا من براثن الجريمة والإهمال؟
حادثة الاعتداء على نائب العمدة، محمد النجار، لم تكن مجرد جريمة عابرة، بل صفعة مدوّية على وجه مدينة ظنناها محصنة بتاريخها العريق، وبركة أوليائها، ومجد مجاهديها، وأصالة ساكنيها. كيف يمكن استيعاب مشهد اعتداء بالسلاح الأبيض، في واضحة النهار، وأمام أعين المارة، وسط المدينة العتيقة التي أحببناها وعشقنا تفاصيلها؟
سلا، التي كانت رمزًا للجمال والأمان، أصبحت اليوم عنوانًا للفوضى والانحدار، وكأن كل ما كان جميلًا فيها قد مات.
إن محاربة هذه الظاهرة ليست مسؤولية السلطات الأمنية فقط، بل مسؤولية جماعية: من المنتخبين، إلى فعاليات المجتمع المدني، إلى الساكنة نفسها. يجب أن ننخرط جميعًا في حملة لاستعادة مدينتنا، عبر التوعية، التبليغ، الدعم الاجتماعي، وتوفير البدائل التي تُنقذ شبابنا من براثن الجريمة.
نحن في دولة الحق والقانون، ولا يمكن السكوت على هذا التراجع المهول في الإحساس بالأمان، وسط شبح الخوف الذي بات يُخيّم على أحيائنا. نحن بحاجة إلى وقفة جادة، إلى محاسبة المجرمين وتجار المخدرات الذين يعيثون فسادًا في محيطنا، يسرقون أحلام شبابنا ويخربون مستقبلهم. إنهم لا يبيعون مواد مخدرة فحسب، بل يبيعون معها الألم، والضياع، وتشتت الأسر و السقوط في مستنقع لا قرار له. إذ لا يمكن إنكار أن أغلب الجرائم عنوانها المخدرات، سواء من خلال التعاطي أو الاتجار، أو حتى التورط غير المباشر بسبب الحاجة إلى المال أو الهروب من الواقع.
من عمق الجرح ووجع الواقع، نصرخ: كفى عبثًا بعقول أبنائنا! نندد بهذه الآفة الخطيرة، ونطالب بتفعيل القوانين الرادعة وتطبيقها بصرامة على كل من يروّج أو يتستّر أو يسهّل وصول هذه السموم إلى شبابنا. لكن الأمر لا يتوقف عند الجانب الأمني فقط، بل يمتد إلى ضرورة معالجة الجذور: فالتنمية، والتربية، وتوفير فرص الشغل، هي صمامات الأمان الحقيقية. وأملنا كبير في أن نعيد لمدينتنا، سلا، مجدها وهيبتها.