انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
اصواتهن

كرامة الأيقونة: انتقام طفولي على نغمة ياكا جرحي

بقلم: مريم أبوري*

كنتُ وأنا في الإعدادي، كلما تعثرتُ وسقطتُ أرضًا بسبب فقداني لتوازني الناتج عن إعاقتي، وغالبًا ما كنتُ أُصاب بجروح، وكلما حضرت زميلتي- وسأسميها اسمًا مستعارًا، فاطمة -إلا وتنمرت عليّ بشقاوة بداية المراهقة. كانت تبدأ بالغناء بصوتها الجميل: “ياكا جرحي…” وهي تضحك وتتلاعب بظفيرتي شعرها شديد السواد، مما زادها جمالًا فائقًا. فكان سقوطي وجروحي وتنمّر فاطمة عليّ بغناء “ياكا جرحي”، كل ذلك قد وثّق حبي للفنانة نعيمة سميح، رحمها الله. حبي لها كإنسانة وفنانة

قد تستغربون كيف لتنمّرٍ أن يدفع إلى حب وسيلة التنمّر بدل كرهها؟ لأنني بحمقي وجنوني اللذين يرافقاني منذ الطفولة، كنتُ أرى في تصرف زميلتي إساءة لهذه الفنانة قبل أن تكون إساءة لي. فنعيمة سميح التي غنّت “ياكا جرحي”—وكنتُ أعتقد، ككثير من المغاربة، أن هذه الأغنية التي أصدرتها عام 1975 لها علاقة بمرضها الذي تزامن مع تسجيلها – كانت فنانة كبيرة، تحظى بحب واحترام المغاربة. فكنتُ أرى أن زميلتي بتنمرها عليّ، إنما تتنمر على مرض هذه الفنانة العزيزة.

كانت الزميلة فاطمة تشارك في الأمسيات الثقافية التي كان ينظمها أحد أساتذة اللغة العربية في الإعدادية، وكان صوتها رائعًا، تؤدي خصوصًا أغاني نعيمة سميح. ومرة، حين غنّت “ياكا جرحي”، خطر ببالي انتقام طفولي.

كانت تلك الواقعة في السنة الأولى إعدادي. بعدما انتهت فاطمة من أداء الأغنية، أشبعناها تصفيقًا، وهي تنظر إلى الجمهور المكون من التلاميذ والأستاذ، بنشوة المغنيات وهنّ على خشبة المسرح. انتظرتُ حتى هدأت عاصفة التصفيق، ثم رفعتُ إصبعي طالبةً من الأستاذ أن أشارك بنص ارتجلته كتابةً بينما كانت فاطمة تغني.

تحدثتُ عن فن نعيمة سميح الجميل باقتضاب، مستندة إلى معلومات رسخت في ذاكرتي المراهقة بعد قراءة استجوابٍ لها. ثم قلتُ إن أغنية “ياكا جرحي” غنّتها عن مرضها، وإن هناك من يغنيها كي يستهزئ بالمرضى، وهذا لا يليق، لأنه استهزاءٌ كذلك بمرض الفنانة نعيمة سميح. كنتُ أتحدث بثقة زائدة، كأنني مناضلة تلقي خطابًا ثوريًا، ولم أكن أركز النظر على فاطمة، لكني بين الحين والآخر أرمقها بسهام نظراتي وكلماتي. تغير لون وجهها، وأصبح كلون الباذنجان، أو هكذا خُيّل لي، لأنني كنتُ أريد أن أمرّغ كرامتها على الأرض، ولو بيني وبينها، دون أن يهتم أحد بالأمر. واصلتُ خطبتي بتقنية “ما بالُ قومٍ…” و”وإياكِ أعني يا جارة”.

والجميل أنه بعد تلك الخطبة “الشجاعة” التي كانت في الحقيقة انتقامًا لي ولكرامتي، مغلّفًا بالدفاع عن كرامة الفنانة نعيمة سميح، سقطتُ مرة أخرى أمام فاطمة وبعض الزميلات والزملاء الذين حضروا خطبتي في تلك الأمسية الثقافية. وما إن بدأتْ فاطمة الغناء تنمّرًا، وربما انتقامًا من خطبتي، حتى جاءها صوتُ زميلٍ لنا يؤنبها ويسخر من صوتها، مع أن صوتها كان جميلًا في الواقع.

شعرتُ بنشوة انتصار أكبر في تلك اللحظة، خصوصًا بعد أن التحق الآخرون بتأنيبها. ومنذ ذلك اليوم، “دخلتْ فاطمة سوق رأسها”، وبقي شعوري بالانتصار لحفظ كرامة الفنانة نعيمة سميح شعورًا طفوليًا جميلًا.

ولحد الآن، كلما سمعتُ أغنية “ياكا جرحي”، أبتسم لشقاوة تنمّر فاطمة ولخطبتي الدفاعية الانتقامية.

رحم الله الفنانة نعيمة سميح، أيقونة الأغنية المغربية، صاحبة الصوت الرائع والابتسامة الأخاذة. تتساقط أوراق رجال ونساء المغرب تباعًا، تاركين فراغًا كبيرًا، نسأل الله أن يملأه بمن هم جديرون به.

كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا*

 

 

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا