كلنا “محمد نجيب”
بسمة نسائية/ منبر بسمة
بقلم: الدكتور عمر محمود بنجلون*
السينما الهندية كما الأمريكية و المصرية و الفرنسية و الإيطالية رقيح ثقافي لمجتمعات تمتد حضاراتها لآلاف السنين.
الفيلم الهندي الرائع “حياة المعز” الذي استرجع مكانة “بوليوود” عالميا (الهوليوود الهندي) أثر في مئات المالايين من المشاهدين بتسليطه الضوء على ظاهرتين تعيشها مجتمعاتنا و دولنا في القرن 21 : واقع العبودية في العالم و ازدواجية خطاب حقوق الإنسان.
الفيلم منبني على وقائع حقيقية من خلال مسار مهاجر هندي في الحجاز، في سيناريو و إخراج فني يعالجان المفهوم القانوني و الاقتصادي و المجتمعي و الجنائي ل “الاتجار في البشر”، هذه الجريمة التي عالجتها معاهدة باليرمو (جزيرة صقلية الإيطالية) بداية سنوات 2000.
لقد تأسس هذا المسطلح السياسي على الإرادة الصريحة في محاربة الجريمة الدولية المنظمة، و هو موضوع تأويلات و توجهات مختلفة لدى الأوساط القانونية و القضائية. إنه مفهوم يتلائم مع أوجه عدة للواقع الطبقي العالمي رغم الإعلان الكوني لحقوق الإنسان و كل المجهودات المؤسساتية الوطنية و الدولية في هذا المجال. من بين مظاهر الصراع الطبقي الحديث استعباد الهنود و الباكستانيين و البانكاليين و المصريين و المغاربيات في دول الخليج، و العبودية الشبه رسمية في دول الساحل، و سماسرة العبور و الفلاحة و الخدمات المنزلية بشمال إفريقيا و الجزيرة الإيبيرية، و النساء و الأطفال المجندين بإفريقيا، و الرق الجنسي بأوروبا الشرقية و البلقان و البوسفور و تايلاند و مينمار، و عبيد المخدرات بأمريكا اللاتينية و الولايات المتحدة إ.ل.خ …
إن الفيلم العالمي يرسم المسار الأسطوري للسيد نجيب محمد المهاجر الهندي في جحيم العبودية الخليجية الذي تمكن من النجاة من قبظة المستغلين بالهروب و عبور البيداء رغم العطش و خطورة الكائنات السامة و العصابات الاجرامية حتى الوصول لبر الأمان و العودة للهند قرب ذويه، ذلك بإيمانه الديني و حبه لعائلته و التشبث بالأمل و الحياة. عمل سينمائي متميز يتبنى مقاربة فنية هندية معهودة تحفز المشاعر الجياشة و الخيال الواسع و الواقعية و الجمال و أحيانا المبالغة الإيجابية التي تساهم في تكريس الموضوعية و الواقعية للأحداث المقدَّمة للجمهور.
السؤال المشروع هنا … بالرغم من التعاطف الطبيعي مع كل ضحايا الهجرة السرية و الاستغلال و الضلم، لا سيما التعاطف مع السيد نجيب محمد و بٌغض الضالمين أمثال الكفيل البدوي الذي شخصه الممثل العُماني “طالب البلوشي” الذي استعبد المهاجر الهندي لدرجة سلب آدميته، أو التضامن مع الهنود الحمر في مواجهة بطش رعاة البقر و الجيش الأمريكي … هو هل جمهورية الهند ضامنة لمجتمع منسجم و متساوي و متحرر من العبودية ؟
الجواب “لا” بكل تأكيد … نضرا للبنيان الطبقي العنيف للمجتمع الهندي المغلف بالعقائد الخرافية الجاهلية و الطبقية الحادة التي تلغي كل أمل في التطلع للمساواة و المواطنة من داخل الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية الهندية، بل تُحَلِّلُ واقعيا و عرفيا و حتى قانونيا أبشع تمظهرات العبودية و الاستغلال.
فإذا نظًّر كارل ماركس و فريديريك اينجلس للصراع الطبقي بين البروليطاريا و الرأسمالية في المجتمع الأوروبي نهاية القرن 19 من برلين و بروكسيل و لندن، فهناك بالشبه القارة الهندية مئات الطبقات مكونة من الحكام و المحاربين (الكشاطريين) و الحرفيين و الملاحين و التجار (الشودرة) و حراس المعابد (البراهمانيين) و العبيد بدرجاتهم المختلفة … و طبعا طبقة المتسولين و المعاقين و المصابين بالجذام المعروفة ب “المنبودين” les intouchables المحرومين من الاقتراب أو اللمس.
كما أن الهند، دولةً و مجتمعاً، دخلت في حرب دينية شبه إبادية ضد كل المجتمعات الموَحِّدة خاصة المسلمة منها و تبني مواقفها الدولية على نفس الأسس كما في موقفها الداعم لحكومة نتنياهو في حربها على فلسطين.
ضحية للاستعمار الجديد بعد استقلالها في اربعينيات القرن الماضي، قام الغرب بخلق دولة باكستان و بنكلادش المسلمتين المجاورتين و المناهضتين للهند تخوفا من حكومة نيهرو الاشتراكية، كما أبعدها عن حكمة و فلسفة و مقاومة و نفوذ الزعيم الماهاطما غاندي، ليصبح المجتمع الهندي فاقد للمرجعية الحضارية و ضحية تخلف و سرطان هيكلي و فريسة للتراجعات الحضارية و التمظهرات البدائية بالرغم من بعض الواحات التنموية في مجال المعلوميات و التصنيع و السينما المرتبطة بمزاج الولايات المتحدة في تدافعها مع الصين و روسيا.
إن فيلم “حياة المعز” يستحق فعلا كل الجوائز السينمائية العالمية، من أوسكار كاليفورنيا إلى نخلة “كانن” بفرنسا مرورا بمهرجان مراكش أو البندقية، لنباغته الفنية و لإحياء ضمائر العالم حول واقع العبودية الذي يفرض على المسؤولين معالجة مؤسساتية وطنية و دولية و إرادة سياسية حقيقية من أجل إلغاء و محاربة كل مكامن و مظاهر الاستعباد و الاستغلال الفاحش … من الهند إلى كولومبيا مرورا بالخليج العربي و إفريقيا و جنوب أوروبا و شرقها.
قصة “محمد نجيب” هي قصة الأمازيغية المحتجزة في نوادي الليل أو قصور إحدى العواصم الخليجية، و الطفل المنتمي للقبائل الأصلية بأمريكا اللاتينية الحمّال للمخدرات من كولومبيا إلى الحدود الأمريكية/الميكسيكية، و النساء الإفريقيات رهائن المليشيات المسلحة بوسط افريقيا، و خادمات البيوت بالأحياء الفاخرة في شمالها، و شباب القوارب في لامبيدوزا و صقلية و مالاكا و مرسيليا بالبحر الابيض المتوسط، و سود موريتانيا و ليبيا، و اوكرانيات و ألبانيات اسطمبول و المنامة و غيرها، و فلاحات هويلبا و ألميريا بالأندلس المجيد … و مئات ملايين الهنود المستعبَدين داخل الهند و خارجها المنسيين من الغرب الامبرايلي و دول البريكس التحررية التي وافقت على دخول الهند لناديها المغلق.
قصة “محمد نجيب” هي عنوان لازدواجية الغرب بين تصدير خطاب الديموقراطية و حقوق الإنسان من جهة و الشراكة العسكرية و الاقتصادية مع اعتى الديكتاتوريات من جهة أخرى، و بينهما شعار الكرامة الذي يشق طريقه بإصرار بتحفيز مَن استَطَاع من الشعوب على النضال من أجل التنمية و الهروب نحو السيادة، و من تَمَكَّنَ من الأفراد على التطلع للعيش الكريم.
فأينما تَجَمَّعَ الغِنى يجتمع البشر … و هذا أول حق من حقوق الإنسان يُلَخِّص في معادلة شاملة كل المبادئ الكونية التي أتت بها حِكَم الحضارات الإنسانية العريقة و الديانات السماوية و الأفكار الثورية منذ 4 قرون.
نعم … “كلنا محمد نجيب”.
* محامي وأستاذ جامعي