انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
أخبار بسمة

الدولة البُراقية.. هل هي ممكنة..؟


بقلم: عبد الله الدامون

ركبت القطارات في المغرب منذ زمن “الكاطريام”، أيام كان الناس يصعدون القطار فيبدو لهم أنهم سيلتقون صدفة بكلينت إيستوود وهو يلاعب مسدسه ويطلق النار على الأشرار ثم يركلهم بحذائه القوي خارج القطار، أو أن جحافل الهنود الحمر ستحيط فجأة بالقطار وتبدأ بقصفه بالنبال وسط “الزغاريد”.

مرت مياه كثيرة تحت الجسر وجاء زمن “البراق”، وفي أول ركوب لي في هذا القطار السريع، الأكثر من اللازم، تذكرت تلك الأيام الخوالي حين كان الناس يتزاحمون على المقاعد الخشبية الطويلة في القطارات مثلما يتزاحمون على كل شيء.

في ركوبي الأول في “التيجيفي”، المدعو البراق، لم أشم رائحة عرق ولا رائحة جوارب متعفنة ولا شاهدت امرأة تزيح الستار، فجأة، عن صدرها أمام الجميع، وتمنح طفلها حق الرضاعة، بشفافية مدهشة.

لم أر مسافرا يدخل القطار وينزع حذاء نتنا ويرتمي بكامل جسده على مقعد كامل وينام بأريحية لا يفعلها في فراشه الخاص، فينافس شخيره صفير القطار بينما مسافرون آخرون لا يجدون أين يجلسون.

أتوقع أنه قبل ركوب البراق، يحرص المسافرون على الاستحمام لأنه مثل مرآة يرى فيها كل مسافر درجة تحضره، ويلبس كثيرون ما يليق بمسافر يركب قطارا قد يجلس فيه .. صدفة.. جنبا إلى جنب مع وزير أو سفير أو برلماني صنديد.. أو حتى نجمة سقطت سهوا من فيلم سينمائي.

مشاهد عفنة كثيرة سادت في القطار العادي ثم غابت في البراق. ربما نشتاق إلى تلك المشاهد لأنه ليس من السهل أن تخرج هكذا، بدون مقدمات، من زمن قطار “الكاوبوي” إلى زمن “البراق”.. فالتقدم له شروطه الزمنية أيضا. لكن لا ينبغي أن نتفاءل أكثر من اللازم، فتلك المشاهد لا تزال قائمة في القطارات العادية، والبراق فقط، هو مثل آلة زمن عملاقة تقول لنا: هكذا يمكن أن تكونوا، أيها المغاربة، في مختلف نواحي حياتكم إن كانت دولتكم عاقلة.

فما معنى الدولة العاقلة..؟ إنها الدولة التي تمارس دور الحكيم الذي يرسم للناس خارطة طريق للحاضر والمستقبل، من دون نسيان الماضي، فينضج الناس بسرعة وحكمة، وعوض أن يهتفوا بسقوط كل شيء، فإنهم يفكرون بالعمل سويا على إسقاط كل مظاهر التخلف والسير بشكل جماعي نحو المستقبل.

الدولة العاقلة هي التي تعتبر أن الفساد عدوها الرئيسي وليس الشعب، وهي التي تخاف على الشعب ولا تخاف منه، وهي التي تصنع الازدهار للجميع وليس من أجل حفنة من الانتهازيين. هي التي ترجم الأحقاد وتقتل الضغائن عبر تقدم “براقي” حقيقي يشمل التشغيل والتعليم والتطبيب وكل مناحي الحياة.

قطار “البراق” ليس معجزة، إنه مجرد درس يعلمنا أن الناس يمكن أن ينضجوا بسرعة في ظل دولة ناضجة لا تخاف على النظام بقدر ما تصنع النظام، دولة تدرك أن التخلف يصنع شعبا مخيفا والتقدم يصنع شعبا واعيا وناضجا.

في قطار “البراق”، أو حتى في “الترامواي” أو في الحافلات الجديدة والأنيقة، يتصرف الناس بنضج مذهل ويحترمون بعضهم ومقاعدهم لأنهم يدركون أن الدولة تحترمهم فيحترمونها لأنها توظف أموال ضرائبهم في صنع وسائل راحتهم.

نظرية الدولة العاقلة قلتها مرة لصديق قبل سنوات طويلة حين كنا في محطة قطار وفي انتظاره خلق كثير، ومن بين المنتظرين سياح كُثر، وعندما وصل، تزاحم الناس على أبوابه وحاولوا اقتحامه من النوافذ، فحاول سياح أوربيون القيام بالمثل، وذهب كل نضجهم وتطورهم إلى الجحيم في لحظة تخلف طارئة.

أولئك السياح يبدون لنا عاقلين وناضجين أكثر من اللازم لأنهم يعيشون في بلدان تحترم مواطنيها، بلدان عاقلة توزع الثروة ولا تحتكرها، وحين حلوا ضيوفا مؤقتين على تخلفنا، ذهب كل تطورهم إلى الجحيم.

وأنا أركب البُراق أو الترامواي أو أي شيء محترم، وأرى نضج الناس وسكينتهم، أتساءل دوما، ما الذي يمنعنا من تحويل هذا البلد كله إلى “بُراق” عظيم، أو ترامواي عملاق..؟ مستشفيات بُراقية ومدارس بُراقية ومصانع براقية وطرق بُراقية وسلوك إنساني بُراقي.. وإذا وصلنا إلى كل هذا.. سنصبح “شعبا بُراقيا” بامتياز..

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا