نجمة اليوسفي (عامان بعد الرحيل)

بقلم: جمال بودمة
لم يكن عبد الرحمان اليوسفي ملاكا، لكنه ربط السياسة بالأخلاق، وبقي نقيا، زاهدا في المصالح والامتيازات، لذلك أحبه المغاربة. الرجل تحول في آخر حياته إلى أسطورة حية، لأنه كان مقلاّ في الكلام، والصمت يضفي على صاحبه هالة من القداسة، خصوصا إذا امتزج بالعفة ونظافة اليد..
عرّاب “التناوب التوافقي” عرف كيف يبقى كبيرا في زمن الصغار، لذلك استطاع أن يجمع المغرب الشعبي والرسمي في صف واحد، يوم رحيله، ووُدِّع بالورود والمناديل. صحيح أن التشييع لم يحضره أكثر من عشرة أشخاص، لأنه توفي في ذروة انتشار جائحة كورونا، لكن جنازته كانت “مهيبة” على وسائل التواصل الاجتماعي، كرّمه الناس من مختلف الأجيال والأطياف والطبقات، قلما اهتم المغاربة برحيل سياسي مثلما اهتموا بصعود اليوسفي إلى السماء.
قريبا من السماء، يمكن أن نقول إن اليوسفي كانت معه نجمة ترافقه، وتنير له الطريق، بخلاف كثير من رفاقه في الحركة الاتحادية، الذين لا يقلون عنه أهمية، لكن ينقصهم حظه، مما جعلهم يقفون في الجهة الخطأ من التاريخ.
محمد الفقيه البصري كان في صف قيادي متقدم، خلال العشرين سنة التي تلت الاستقلال، لكن “الاختيار الثوري” جعله يتقهقر إلى الصف الثاني، ويعيش على هامش الأحداث، بعد المؤتمر الاستثنائي لعام 1975، في الوقت الذي حدس فيه اليوسفي أهمية المحطة، وبعث برسالة صوتية إلى المؤتمر، جعلته في قلب الحركة الجديدة، رغم وجوده في المنفى.
أما محمد اليازغي، فقد كان يفترض أن يخلف عبد الرحيم بوعبيد، لانه وريثه الشرعي، وأكثر من يجسّد الخيار “الاشتراكي الديمقراطي” في حزب “القوات الشعبية”، لكن الحظ السيء ل”الكاتب الأول بالنيابة”، جعله يقف في المكان الخطأ دائما، وضاعت منه “الكتابة الاولى” عام 1992، بسبب الصراع مع نوبير الأموي، وعندما حاول ان يستعيد المبادرة، وسيطر على التنظيم، كان الأوان قد فات، وانقلبت عليه الكائنات التي صنعها بيده، ليجد نفسه يخرج من الباب الضيق. لم يقتله الطرد الملغوم وقضت عليه حقيبة فارغة، سميناها وقتها ب”الصاكاضو”.
نجمة المهدي بن بركة وعمر بن جلون انطفأت مبكرا. هكذا شاءت أيادي الغدر.
وماذا عن عبد الرحيم بوعبيد؟ ماذا لو كُتِب له أن يعيش سنوات أطول، وحدّثه الحسن الثاني عن “السكتة القلبية”؟ هل كان “التناوب” سيكون هو “التناوب”؟ هل كان سيسفر عن نفس النتائج؟
التناوب التوافقي” كان يصبو إلى تحقيق هدفين: انتقال هادئ للحكم من الملك إلى ولي عهده، وانتقال سلس للسلطة من الاستبداد إلى الديمقراطية.
الهدف الأول تحقق والثاني فشل. الحكم انتقل من الحسن الثاني إلى محمد السادس بسلاسة أدهشت العالم. وعندما أقال “الملك الجديد” وزير الداخلية إدريس البصري، ورفع الحصار عن عبد السلام ياسين، وأعاد ابراهام السرفاتي الى بلاده، لم يكن محمد السادس يفعل شيئا آخر غير الضغط على “اكسيليراتور” السيارة التي وضعها الحسن الثاني على طريق معبّد في اتجاه “الديمقراطية”، لكن بدل أن تواصل السير على “الاوتوروت”، انحرفت فجأة، وسارت نحو المجهول..
عبد الرحمان اليوسفي الذي عاش جزء من حياته في كان، مدينة السينما، فهم أن فيلم “التناوب” قد انتهى، وقَنع بالدور الذي لعبه، وبالجوائز التي حصدها، رغم أنه لم يكن راضيا تماما عن الإخراج والحبكة والبناء الدرامي. النجمة كانت معه، مرة أخرى، وأوحت ليه أن يخرج من السياسة ويدخل إلى التاريخ.!