“هنا”… حيث تتحوّل الحياة إلى مسرح

المسرح لحظة إنسانية كاشفة..
بسمة نسائية: عزيزة حلاق
مسرحية هنا …حين يصبح الكاستينغ مسرحًا للذات
لا يمكنني أن أتحدث عن العرض المسرحي “هنا” الذي تابعته مساء أمس، بفضاء “ليزاداك”، دون أن أبدأ بالتنويه والإشادة بمديرة المعهد، الفنانة لطيفة أحرار، هذه السيدة التي تجسّد، بكل ما في الكلمة من معنى، مقولة “الشخص المناسب في المكان المناسب”.
في كل مرة أحضر فيها عرضًا مسرحيا أو لقاء مفتوحا، من إنجاز طلبة المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، المعروف اختصارًا بـ”ليزاداك”، يتأكد لي أن حماستها، وحضورها، ومهنيتها العالية، هي جزء لا يتجزأ من نجاحات هذا الصرح العلمي والفني.
تابعتُ أمس، باهتمام، كيف كانت تتابع أدق تفاصيل العرض، أداءً، وكأنها تؤدي دورًا صامتًا فيه، وكم كانت معبّرة تلك الابتسامة التي ارتسمت على وجهها، وهي تتابع بفخر العرض الذي قُدّم بلغة موليير، بعنوان “هنا” للكاتب الفرنسي والمخرج العالمي باسكال رامبير.
كانت فخورة بطلابها، وإلى جانبها السفير الفرنسي وممثلو المعهد الثقافي الفرنسي بالرباط، يتابعون عرضًا مسرحيًا يشهد على نجاح مؤسسة، وعلى رؤية تُثمر في كل مرة طاقات شابة واعدة.
العرض الذي قُدّم لم يكن عملًا مسرحيًا تقليديًا، بل تجربة فريدة في شكل “كاستينغ” لاختيار ممثلين لفيلم أو مسرحية، لم تتضح خيوطها بعد. 13 مرشحًا ومرشحة، جاؤوا من مختلف مناطق المغرب: من الحسيمة، وتازة، وسلا، وغيرها، وقفوا على الخشبة لا ليُجسّدوا أدوارًا، بل ليجسّدوا ذواتهم. تحدثوا عن تجاربهم الشخصية، عن علاقتهم بالمسرح، عن التحولات التي أحدثها هذا الفن في رؤيتهم لأنفسهم وللعالم…
عرضوا مخاوفهم، أحلامهم، هواجسهم، وقدموا تركيباتهم الشخصية بانفعالات صادقة ولمسات فنية جعلت من كل لحظة فوق الخشبة حكايةً بحد ذاتها تستحق أن تُروى. كانت التجربة أشبه بمرآة، نرى من خلالها أعماق جيلٍ يتلمّس طريقه، ويؤمن بقوة التعبير، ويملك من الجرأة ما يكفي ليقول: “نحن هنا، لنا أصوات وأحلام وهوية”.
لكن الأهم من كل ذلك، أن هذا العرض لم يكن منغلقًا على هموم فردية أو جمالية فقط، بل حمل في طيّاته رسالة بليغة إلى عالمٍ يعيش لحظة ارتباكٍ عميقة، عنوانها الحروب والظلم والكراهية. ومن وسط هذا الركام، ارتفعت أصوات هؤلاء الشباب كنداءٍ فنيّ راقٍ، يحمل وجع الإنسان ويحتفي بكرامته.
وفي لحظة صامتة، حضرت صورة الطفل السوري بقميصه الأحمر، ملقى على الشاطئ. تلك الصورة التي هزّت ضمير العالم، بدا وكأن العرض يردّ عليها بطريقته: لا ليمحوها، بل ليخلّدها، ويقول إن المسرح لا يغيّر مجرى السياسة، لكنه قادر على أن يغيّر نظرتنا للمعنى، وللحياة، وللبشر.
مسرحية “هنا” هي تحية نابضة بالحياة للشباب المغربي، وتحتفي بشغف الفنانين العميق بهذا الفن الصعب: المسرح.
خرجنا من القاعة لا نحمل فقط انطباعًا جماليًا، بل أثرًا إنسانيًا. خرجنا وفي القلب رجفة، وفي الذاكرة وجوهٌ شابة تُؤمن بأن الفن ليس ترفًا، بل مقاومة، وملاذ، ورسالة.
عن هذه التجربة مع طلبة معهد ليزاداك، قال باسكال رامبير:
“هنا”… أصوات شابة تُجسّد الحلم والوجع..
“بعد أن تمت دعوتي إلى ISADAC قبل ثلاث سنوات من طرف محمود الشاهدي للقاء طلبته في مجال الكتابة المسرحية، وقعتُ في حب ثلاثي: قصص الطلبة (حياتهم، رغباتهم، آمالهم)، هذا المعهد المسرحي الرائع والفضولي، وأخيرًا المغرب وتاريخه.
وبفضل حماس لطيفة أحرار، مديرة المعهد، والدعم المتواصل من المعهد الفرنسي بالمغرب، تمكّنا من تحقيق هذا الحلم: الاستماع إلى جيل اليوم.
زرتُ الرباط عدة مرات لإجراء أول اختبار أداء، ثم بعدما تم اختيار الممثلين والممثلات، قضيت وقتًا طويلًا في الاستماع إليهم، إما في الرباط أو عبر البريد الإلكتروني حيث شاركوني مساراتهم. ثم كتبت النص خصيصًا لهم، نصوصًا مفصلة “حسب المقاس”.
أجرينا عملًا طويلًا على الطاولة: قراءة النص، العمل عليه، تسليط الضوء عليه.
هم يناضلون من أجل كل كلمة. كلهم ممثلون وممثلات. يتحدثون عن حياتهم، أفراحهم، مخاوفهم، وحبهم لهذا الفن الصعب: المسرح. شيئًا فشيئًا يتشكّل أمام أعيننا وجه الشباب المغربي المتعدد في 2025.
إنهم رائعون بالحيوية والنضارة. ما شاهده الجمهور اليوم، على الخشبة، هو تقريبًا نسخة طبق الأصل عن أول اختبار أداء أجريته معهم. حياةٌ تليها أخرى على الخشبة، وكل مرة هي لحظة تجلٍ. كما قالت إحدى الممثلات: “كل حياة تستحق أن تُروى.”