وفاء

رجاء خيرات
ما كان لي أن أفهم، كما الآخرين، لماذا أدار أبي ظهره لكل المدن التي مر منها عابر سبيل ليعانق مسقط رأسه…
ألزم الأمر عشر سنوات ويزيد لأفهم و أدرك أنه كان يصنع حياة هناك..
في رقعة صغيرة بباديته بمنطقة الشاوية، حيث الجفاف ضرب بكل قسوته في أطناب الأرض، كان هناك وميض ضوء خافت يأتي بكل ثقة و عنفوان ليشق السطح الصلد وينبع كفيض ماء تفجر على يد صاحب كرامات..
بدا لي أبي حينها كما لو أنه “دون كيشوت” يريد أن يتحدى الطبيعة و يضخ الحياة في جثة قاحلة هجرتها الخضرة والماء منذ سنين، مسلحا ببعض التفاؤل و حب جارف للأرض..
كان صانع حياة تشبهه و كما يشتهي بعيدا عن ضجر الإدارة و جحودها…
تلك التي كان يتلوي تحت سياطها بتجلد حتى يضمن قوت أولاده..
حتى في ارتقائه سلاليمها كان ينظر إليها بتأفف و ينتظر انقضاء مهمته ليرتمي في حضن الأرض، كما يعود طفل، بعد غياب، لحضن أمه..
في الصندوق الخلفي لسيارته، يضع شتلات من أشجار الزيتون، قادما بها من سوس حيث كان يعمل، ليثبتها في تربة غريبة عنها، و يعدها بأنها ستكون في مأمن في أرض تعرف جيدا كيف تكرم ضيوفها الوافدين..
في آخر زيارة للضيعة التي تركها أبي يتيمة بعد رحيله، استقبلتني الأشجار باسمة، تضج بالحياة.. رأيت وجه أبي ينعكس في أوراقها وبحثت عن ابتسامته التي عثرت عليها بين ثنايا تربة لا تعرف للجحود طريقا.. الأرض تعطي بسخاء وكلما أكرمتها و أخلصت في حبها ظلت وفية لذكراك..