“عراقي في باريس”.. خيبات جيل

بقلم: مريم أبوري*
رواية تحكي عن عراقي، آشوري، مسيحي، يحمل اسمًا يهوديًا، يقرأ القرآن ليحفظه ويبدد مخاوفه. عاش على أمل تحقيق حلمه: كتابة وإخراج فيلم عن أبيه.
حلم السينما والإخراج ورثه عن “قارياقوس”، صديق والده، الذي بدوره ورثه عن جندي أنقذه من الموت خلال مجزرة ارتكبها الأكراد ضد الآشوريين.
إنه عراقي يحمل خيبات جيل عربي عاش في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، جيل ماتت أحلامه قطعةً قطعة، فتاه بين شوارع وحانات وأزقة مدينة الأنوار، باريس، حيث صار الشرب وممارسة الجنس ملاذًا للهروب بالنسبة لصحفيين وأدباء عرب، اقتاتوا من أموال دول البترول و”كرم” القذافي.
أدباء وصحفيون يرون في المرأة، مهما كان منصبها ومستواها الاجتماعي والثقافي، مجرد أداة للجنس. أدباء وصحفيون يتهمون بعضهم البعض بالتجسس لصالح دول عربية.
من خلال السيرة الذاتية لصموئيل شمعون “عراقي في باريس”، يخوض القارئ رحلات ذهاب وإياب عبر الزمن “فلاش باك”، متنقلًا بين العراق وفرنسا، مرورًا بسوريا ولبنان والأردن واليونان.. رحلات تلخص مسيرة حياة الكاتب، الذي ركض وراء حلمه بإنجاز فيلم في هوليوود، بلاد تحقيق الأحلام، والتي لم يصلها إلا لزيارة أمه التي استقبلته بقولها: “ها أنا قد وصلت قبلك إلى أمريكا”، وذلك بعد عمر طويل.
تأخذك الرواية بأسلوبها السهل والعميق إلى عالم البطل/الراوي، فتجد نفسك تحبه وتتعاطف معه، وإن كنت تختلف معه جذريًا. تعكس حياته ضياع جيل بأكمله، لكن تشفع له طيبته، صفاء روحه، تسامحه، وتشبثه بحلمه رغم عدم تحقيقه، وحبه العميق لأمه وأبيه، الذي كان صديقه قبل أن يكون والده.
يا لها من علاقة جميلة، يملؤها الحنان والحب الكبير، ويتجلى فيها شغف مشترك بالسينما. لقد كان حضور الأب في حياة البطل، وافتخاره به، دافعًا قويًا جعله يسعى لتحقيق حلمه: إنجاز فيلم عن أبيه، ذلك الأصم، الأبكم، الفقير، الذي تميز بحبه لإنجلترا وولعه بملكتها، رغم أنه عاش ومات في العراق.
برزت لغة الإشارة بقوة في السرد، إذ كانت وسيلة تواصل البطل مع أبيه، الذي كان عراقيًا بجسده، لكن بوجدان إنجليزي.
عاش البطل، وعشنا معه، أهوال التعذيب في السجون العربية، حيث اُتُّهم بالتجسس (في سوريا، لبنان، الأردن..)، واختبر أساليب تعذيب لا تختلف من بلد إلى آخر. كما عايش، منذ طفولته، مأساة تشريد عائلته والعائلات الآشورية والكردية، عندما انقلب الجيش على الملك العراقي.
الرواية تستحق القراءة، فهي تترك غصة في الحلق، لأنها تروي خيبات جيل لم يخرج بعد من متاهته.. تمامًا كما جيلنا.
تذكرت هذه الرواية وأنا أجوب شوارع باريس، حين لمحْتُ عربًا قد يكونون هاجروا في نفس الفترة التي هاجر فيها صموئيل شمعون إلى هذه المدينة، التي تخفي بين أضوائها الكثير من المآسي لجيل هاجر أو هُجّر من بلاده، بحثًا عن الحرية والديمقراطية وتحقيق الأحلام. البعض منهم حقق ذلك، بينما البعض الآخر- إن لم يكن أغلبهم- ضاعوا في أزقة باريس، التي لم تسعفهم أنوارها، أو ربما هم من اختاروا تفاديها، حتى لا تسلط الضوء على ضياعهم وتيههم.
*كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا