
بقلم: الشاعر سعيد الباز
بسمة نسائية/ ممنوع على النسا
هل قدرنا أن نشاهد/ نعيش هذه المآسي تباعا… هل قدرنا أن نلوذ بسكينة الصمت وفضيلة اليأس؟
لدرب النكران ممرّ معتم وطويل…
كان ذلك بمحض الصدفة. و بالذات، في محطّة المسافرين بالدار البيضاء. توقفنا هناك لمدّة ساعتين اضطراريا حتّى نتمكّن من مواصلة السفر باتّجاه الجنوب. إنّها المحنة السنوية التي اعتدنا أنا وزوجتي على تسميتها “موسم الهجرة إلى الشمال”، أصعب ما فيها طريق العودة التي تبدو لسبب غير مفهوم أطول بكثير من طريق الذهاب. (فبعد مكالمة قصيرة ها هي ذي مليكة مستظرف تُقْبل صحبة إحدى رفيقاتها). لم أكن أعرف شيئا عن مرضها الأيّوبي (نسبة إلى النبي أيوب). لكن شيئا ما يتخفّى وراء سحنتها السمراء، وعينيها البارزتين كاتّهام بالتحريض على فعل كاسح. وفي وشوشات نسائية خفيفة تواريت كعادتي في مثل هذه المواقف. لأنّ ما ترويه النساء فيما بينهن يفتقد معناه بحضور رجاليّ متطفّل.
في المقصورة الفارغة للقطار الذي يهمّ بمغادرة الدار البيضاء على شكل جرعات لامبالية، متوقّفا في محطّات قصيرة وشبه مهجورة، أخذت أفكر في هذه الفتاة الواقفة على عكازيها الآتية من هول الفقر باتّجاه المرض، تكتب وتعاند، تحتّج وتصمد… ليس لديها سوى هذا الكيان الصغير غير قادر حتّى على الحركة، لكن في عينيها نظرة غير عادية. نظرة ليس فيها وميض الأحياء ولا عتمة الأموات. يبدو أنّها غادرت كلّ هذه الأشياء التي تدبّ أمامنا وتشعرنا بأننا ما زلنا أحياء… يبدو كذلك أنّها أخذت مسافة بعيدة وقاسية للنظر في كل ما يدور حولها واكتفت بألمها وعزلتها كآخر ما تبقى لها من عزاء.
في المرّة الثانية، رأيتها في الصويرة أثناء لقاء للقاصّات المغربيات. كان المرض حينها قد صار واضحا. الحركات الجسدية ثقيلة، زرقة قاتمة تطبع جسدها النحيل. منظّمو اللقاء وجدوا صعوبة في استضافتها بحكم أنّ جلسات تصفية الدم كانت متقاربة جدّا، ممّا لا يسمح لها بالسفر لمدد طويلة. لكن المفاجئ بالنسبة لي هو تلك القسوة البادية عليها، والحدّة في الجمل القليلة التي كانت تتفوّه بها. ليلتها لم أتحمّل سوى تسع عشرة صفحة من كتابها. لأنّ الكتابات الجارحة بدأت تشعرني بالخوف وبالخراب الذي يحسّ به الكاتب المغربي المرغم على الذهاب بعيدا في دماره الشخصي ليؤكّد كينونته الهشّة.
غريب أمر هذا البلد الذي يعيش بمحاذاة بحر الظلمات ويحيا في عماء مطلق. غريب جدّا هذه الحدود الأسطورية لبلد يمتدّ من سهام هرقل الطائشة إلى رمح عقبة بن نافع المنغرز في شأفة المحيط مرورا بأكتاف أطلس الحامل لأوجاع العالم.
لا أستطيع تماما أن أفسّر هذا النكران لكتاب وفناني ومبدعي المغرب. لماذا عليهم أن يموتوا أوّلا، أو على الأقلّ أن يمرضوا مرضا شنيعا حتّى يتسمّع الناس أخبارهم؟ هل أنّ جثامينهم أغلى من كتبهم؟ هل من المفروض أن ينالوا أهمّية إعلامية، أو أن يتمّ الإخبار بوجودهم في النشرات أو في قصاصات ضائعة من جريدة ما، دون أن يقرأ لهم أحد دون أن يناقشهم أحد فيما يكتبون. أكاد أتخيّل أنّهم متّهمون بما سوّلت لهم أنفسهم بقضاء شطر من حياتهم في تحبير الأوراق و كتابة “ما لا يجدي لهذا الوطن” ؟؟؟
أو على عموم النّاس أن يتأكّد لهم في بلادنا أنّ كتابنا لا يعلن عن وجودهم إلّا في خبر وفاة، أو طلب علاج بالخارج من أثر مرض مزمن وخطير؟ وأنّ إثبات الإبداع في المغرب لا يمرّ بالضرورة إلّا بإدارة المصحّات وأقسام الإنعاش؟؟؟
لعلّ من واجبهم أن ينصرفوا إلى ما ينفع ويفيد. وإلّا، لماذا يهبّ الكثيرون إلى تدبيج المراثي، وتخصيص الصفحات ليوم أو لأسبوع في الأقصى. ثمّ يأتي النسيان الكبير.
أتّذكّر أحمد بركات، محمد زفزاف، مليكة مستظرف، حوماري، عبد الله راجع… و آخرين بدون ترتيب متعمّد. لقد ماتوا وارتاحوا، وارتاح أكثر الوطن. إنّي لا أرثي أحد. كلّ ما أعرفه عن هذا البلد أنّ النكران فيه أشبه بدرب طويل ومعتم لا يقود سوى إلى النسيان.
في حالة أخرى لعلّها تسعف في هذا المقام ردّد الشاعر الفرنسي المغمور جاك بريفيل، و الذي لا علاقة له بالآخر المشهور جاك بريفير:
من هذا الفراغ المحيط بي
و من صوت كلماتي، التي لا تصل أحدا
و من صداقاتي غير المفهومة و المهجورة
عددت الذين أتوا
عددت الذين رحلوا
والذين سوف يمكثون، سيرحلون