كيف انتفض فؤاد زويريق يوم انتفاضة 1981

مازلت أتذكر جيدا ذلك اليوم المؤلم من سنة 1981، كنت حينها في السادسة عشرة من عمري عندما كانت الانتفاضة الشعبية على أشدها وكانت الشوارع تزدحم بالمناضلين والمناضلات، تطوقهم فرق أمنية وعسكرية مدججة بكامل عتادها وأسلحتها، مازلت أتذكر ذلك اليوم الذي سقط فيه مئات الشهداء، فقط لأنهم ثاروا على غلاء الأسعار، وعلى ظروف معيشتهم وظلم الدولة لهم، لم أكن هنا مع المنتفضين ولا مع الشهداء، كنت في نفس المدينة لكن في مكان أخر، منزويا في ركن من الأركان المعتمة لمحل خياطة بئيس منعزل داخل زقاق من الأزقة الهامشية للمدينة، أشتغل كبهيمة أو في أحسن الأحوال كعبد مملوك مقابل ثلاثين درهما لكل شهر، وفي الركن المقابل يجلس حسن، شقيقي الأصغر الذي لم يكن حظه أحسن من حظي..
أمام مدخل المحل يجلس المْعَلَّمْ بوجمعة كعادته، ببطنه المنتفخ وصلعته اللامعة، كائن متسلط ظالم، لا رحمة في قلبه، بجانبه عصا ”يهش” بها علينا كلما سوّلت له بذلك نفسه الأمارة بالسوء، كنا نشتغل أنا وأخي اليوم كله ولسبعة أيام متواصلة حتى نوفر لأبينا بضع كؤوس من الخمر الرخيص وإلا كان مصيرنا الطرد من البيت.
أصوات المنتفضين تصلنا من بعيد ونحن منهمكان في عملنا تحت أنظار المْعَلَّمْ، من حين لآخر أسترق النظر إلى أخي فأجده يقاوم ألمه، من جراء طفح جلدي ظهر على يديه فجأة، يتألم في صمت حتى لا يشعر به لمْعَلَّمْ بوجمعة، مر الوقت ببطء قاتل حتى وصلت ساعة تسليم العمل الذي بأيادينا واستلام أخر، لم يتمم شقيقي عمله بعد، كنت أبكي بداخلي وأنا أشاهد دموعه تختلط بمخاطه، كنت خائفا مما ينتظره إذا ما انتبه اليه لمْعَلَّمْ، وأنا غارق في هواجسي هذه، حصل ما كنت أخشاه..
فقد وقف علينا يطلب ما أتممناه، أعطيته ما بيدي، ثم اتجه صوب أخي، لاحظت الرعب الشديد الذي تملكه، لم أنتظر حتى يصل إليه، قذفت بحجر وسط بركة الصمت والتوتر هذه وقلت (خويا أمريض لمْعَلَّمْ )، رمقني بنظرة شزراء، ثم التفت إلى أخي غير مبال وكأنني لم أتكلم، قائلا بغضب( أراَ ديك الخدمة اللي فإيديك)، ارتبك أخي ثم تمتم بشفتين مرتعدتين (باقي ما كملتهاش ألمْعَلَّمْ …) لم يكمل عبارته حتى انهال بعصاه على كل جزء من جسدينا الضئيلين وصراخه يصم آذاننا (حيت امريض أبلقواد لأخر لاش جاي، سيرو اتقوْدو بجوج من اهنا، حتى احد فيكوم ما باقيش إجي بغيتو تعاديوْني ياولاد القحاب) قُذفنا خارجا، لتبدأ هواجسنا من جديد، كيف سيتقبل والدنا الأمر، وهو الذي ينتظر دريهماتنا كل شهر بفارغ الصبر..
لم نستطع الاقتراب من البيت، بقينا خارجا طيلة اليوم. كانت المدينة مشتعلة، احتجاجات هنا وهناك، وتعزيزات عسكرية تتقاطر من كل حدب وصوب، كنا نشتعل أيضا، من فرط التفكير في مصيرنا الذي لم يكن بأي حال من الأحوال مجهولا، كنا نعرف مآلنا تمام المعرفة، التجأنا إلى البحر، واعتكفنا في شاطئه حتى منتصف الليل، ثم اتجهنا مباشرة صوب البيت، مستسلمان لقدرنا، وجدنا أبي أمام الباب وأمي خلفه تتوسل إليه، كان مخمورا كعادته، لم ينتظر حتى نصل، صرخ فينا (فين كنتو حتى لدابا أمساخيط لوالدين)..
شرح له حسن ما حصل وجبينه يتصبب عرقا من شدة الخوف، فجأة وبحركة من والدي ارتطم جسد أخي بالأرض، حتى خلت أن عظامه تكسرت، أخذ حبلا، طوق أطرافه، ثم جره إلى شجرة وسط الفناء، كل هذا حدث في ثوان معدودات تحت أنظاري وأنظار أمي التي لم تتوقف عن الصراخ والتوسل..
لم أنتظر دوري، بل أطلقت ساقيّ للريح أخيط الأزقة والشوارع، وجدت نفسي متسكعا تحت الظلام، بين القطط والكلاب، شعور بالانتماء إلى هذه الحيوانات المتشردة اعتراني وأنا أندس وسطهم بحثا عن الأمان، ذاك الأمان الذي لم أجده لدى فصيلتي من بني الإنسان، شعور بالسخط والعجز انتابني وأنا أُقذف للمرة الثالثة ظلما، بعدما قذفني أبي داخل أحشاء أمي ذات شهوة، لتقذفني بدورها إلى هذه الحياة المجحفة، وها أندا اليوم أُقذف من جديد خارج المحل والبيت إلى الشارع.
صمت رهيب يعم المكان تكسره بين الفينة والأخرى أصوات بعض طلقات الرصاص التي مازالت تسمع من بعيد، جلست القرفصاء مستندا إلى جدار متهالك واضعا رأسي بين ركبتي خوفا من المجهول، لم أنم الليل كله، كنت أنتظر نور الصباح ومعه نور الأمل بفارغ الصبر، كانت مصاريني تتمزق ألما من شدة الجوع، ونباح الكلاب ومواء القطط لم يزيدا الليل إلا رهبة وخوفا، لم أهتم بما جرى من انتفاضات واحتجاجات، حتى أنني لم أبحث ولم أسأل عن سببها، لم يكن الأمر يهمني بقدرما كانت تهمني انتكاستي وظلم الحياة لي..
بزغ الفجر أخيرا، واستمرت معاناتي، لم أجرؤ على الاقتراب من المنزل، غادرت الحي لأجد نفسي متسكعا في شوارع المدينة لثلاثة أيام متتالية دون نوم، ودون مأوى، ودون أكل، في اليوم الثالث خارت قواي بالكامل ولم أقو بعدها على المشي والحركة، حتى أحلامي وآمالي تبخرت وانطفأت، توسلت حارس سيارات بأن يجد لي مكانا أبيت فيه ولو لسويعات قليلة، أخذته الرحمة بي وأشفق على حالي، فمنحني بعض الطعام، وحضَّر لي مكانا في مؤخرة سيارة نقل كانت مركونة بجانب الطريق.
نمت فصحوت على ألم مثانتي التي كادت تنفجر جراء ضغط البول، كان الوقت ظهيرة والحرارة شديدة، نزلت من السيارة، قصدت مكانا خاليا، أفرغت ما كان بي من ماء، لأنتبه فجأة أنني لست في نفس المكان الذي نمت فيه، السيارة نفسها، لكن المكان تغير، عندها أدركت أن السيارة تحركت دون أن يشعر السائق بوجودي خلفه، ودون أن أشعر بحركتها، سألت عن المنطقة، فعرفت أنها خارج المدينة بعدة كيلومترات..
شددت الرحال مجددا، تمشيت لساعات تحت أشعة الشمس الحارقة حتى وصلت إلى أطراف المدينة، فوجدت جماعة من الناس يتحلقون حول رجل يقوم بحركات بهلوانية، وقفت وسطهم مشدودا إليه متناسيا مأساتي لبعض الوقت، فرغ الرجل من حركاته المضحكة، ثم بدأ يطلب من المتفرجين بعض النقود، ويذكرهم بأن اليوم يوم جمعة والصدقة واجبة على كل مسلم، استرعى انتباهي اسم اليوم، اندهشت، شككت في الأمر ثم سألت أحدهم، ليخبرني بأن اليوم هو فعلا يوم الجمعة، يا إلاهي لقد نمت لثلاثة أيام متتالية في السيارة دون أن أدري، تذكرت أيضا بأن اليوم يوم زفاف ابنة عمي، وأن العرس سيقام في منزلنا، اتجهت صوب المنزل دون تفكير، بدأ الظلام يسدل ستائره على السماء عندما وصلتُ، زغاريد النساء تُسمع من مدخل حينا، شيء من الفرح مختلط بالخوف اعتراني وأنا أشاهد الضيوف بكامل زينتهم أمام باب بيتنا، اندست وسطهم ثم ولجت إلى الداخل متخفيا أبحث عن أمي، فجأة التقت عيناي بعيني أبي، قشعريرة الرهبة سرت في كل أنحاء جسمي المنهك، نظر إلي باشمئزاز لتجذبه بعيدا عني مؤخرة مكتنزة لواحدة من المدعوات، لم أره تلك الليلة فقد انصهر وسط أجساد النساء والشيخات متناسيا أمري.
* *جميع شخصيات القصة وأحداثها من وحي الخيال، وأي تشابه بينها وبين شخصيات حقيقية هو من قبيل المصادفة.
الصورة حقيقية من انتفاضة 20 يونيو 1981 بالمغرب
* منقول من حائط الكاتب على صفحته بالفايسبوك