مستقبل حقوق الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي

ذة. فاطمة رومات
رئيسة المعهد الدولي للبحث العلمي
أستاذة بكلية الحقوق اكدال
لا شك في أن الذكاء الاصطناعي يذهلنا كل يوم بطرحه الحلول لمجموعة من القضايا التي أصبحت عالمية في عصر العولمة و العولمة التكنولوجية. و قد أثار مفهوم الذكاء الاصطناعي جدلا واسعا و اختلف الخبراء في تعريفه بين من اعتبره فرعا من فروع علوم الحاسوب أي ذلك الحقل المعرفي الذي يهتم بتطوير الحواسيب لتصبح قادرة على القيام بعمليات شبيهة بتلك التي يقوم بها البشر. و المقصود هنا التعلم و التفكير بعقلانية
و باستخدام المنطق بل أيضا القدرة على تصحيح الأخطاء في حالة وقوعها. و هناك من يعرف الذكاء الاصطناعي بالتطور التكنولوجي الذي يجعل للآلة قدرات مثل ذكاء البشر أي القدرة على التعلم و التفكير والتكيف و التصحيح الذاتي، الخ. وهناك من يعتبره توسيعا لنطاق الذكاء البشري من خلال استخدام الحواسيب و ذلك بتطوير تقنيات البرمجة أكثر فعالية، كما جري في الماضي عندما تم تعويض المجهود البدني بالآلة الميكانيكية.
لكن، تعريف المفهوم تطور بنفس الوتيرة التي عرفها التطور التكنولوجي لتكون نقطة الالتقاء بين كل التعاريف الحديثة هي محاولة “تقليد السلوك البشري الذكي”.
و على العموم يمكن الوقوف عند أربعة أنواع من الأنظمة الذكية و هي :
-الأنظمة التي تفكر مثل البشر
-الأنظمة التي تتصرف مثل البشر
-الأنظمة التي تفكر بعقلانية
-الأنظمة التي تعمل بعقلانيه.
فكما أن الهدف الأساسي للذكاء الاصطناعي هو تسهيل تمكين الأفراد من حقوقهم فإنه بالمقابل يؤثر سلبا على هذه الحقوق. الأكيد أن هذا التطور يلحق تغييرا كبيرا بحقوق الإنسان يجعلنا نطرح الجواب على ملحاح السؤال، ما هو مستقبل حقوق الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي؟
في الواقع هذه الورقة هي بمثابة نداء للتفكير في وضع استراتيجيات مستقبلية استشرافية كفيلة بضمان حقوق الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي.
رغم أن العولمة التكنولوجية سهلت إلى حد كبير ثورة حقوق الإنسان و فتحت فضاء جديدا لممارسة الحريات. فإنها بالموازاة مع ذلك تطرح مجموعة من التحديات بالنظر إلى مخاطر الاستعمال الواسع لهذا الفضاء و استثماره من طرف البعض في أشياء سلبية أدت لظهور مجموعة من القضايا الدولية التي يجب أن يجد لها المجتمع الدولي حلولا مثل الأمن الالكتروني و الجريمة الالكترونية، بل إن الانترنيت أصبح يستعمل ضد الأمن القومي للدول و ضد سيادتها و كلها تمس في العمق حقوق الإنسان.
إن الاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي جاء بهدف ضمان مستقبل تطرح فيه حلول بديلة للقضايا العالمية بدءا بالأمن الغذائي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية و تطوير الخدمات الصحية. لكن بقدر أهمية الآثار الايجابية للذكاء الاصطناعي على الحقوق الأساسية والاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية للأفراد بقدر ما نلاحظ أنها تعمل على تعزيز دور الشركات المتعددة الجنسيات مقابل تراجع دور الحكومات. و الشركات هدفها ربحي محض في حين أن ضمان الحقوق هو مسؤولية الدول. و هنا يطرح تحد أساسي و هو ضرورة تحقيق التوازن بين حماية حقوق الإنسان و تحقيق التنمية الاقتصادية. لكن الأمر سيكون أكثر صعوبة و تعقيدا في عصر الذكاء الاصطناعي لأن الأفراد سيكونون أمام خيارات تحددها الشركات لا الدول الملتزمة تجاه الأفراد بمقتضى العقد الاجتماعي.
في عصر الذكاء الاصطناعي ستكون الكلمة الفصل في تحديد مسار الإنسانية و مآل حقوق الإنسان إلى من يمتلك السيادة التكنولوجية.
و هذا ما يبرر السباق نحو الذكاء الاصطناعي في الحرب الباردة الحالية بين القوى الاقتصادية و التكنولوجية و على وجه التحديد الصين و الولايات المتحدة الأمريكية اللتان تتنافسان من أجل امتلاك السيادة التكنولوجية البوابة الوحيدة للحفاظ على مركز الصدارة عالميا سواء في المجال العسكري أو الاقتصادي.
في ظل هذا السباق يبقى مستقبل الإنسانية حافلا بالتغييرات لا سيما مع بروز “روبوتات” قادرة على تطوير نفسها بنفسها و بقدر يفوق بكثير خبرة البشر أو المهندسين الدين صنعوا هذا النوع من “الروبوتات” في البداية. و هذا الأمر في حد ذاته يشكل تهديدا لأحد أهم الحقوق ألا وهو الحق في الحياة، لاسيما إذا ما استخدمت هذه “الروبوتات” من طرف الجماعات الإرهابية.
و قد أشار الأمين العام للأمم المتحدة في خطابه الذي ألقاه في الجلسة الافتتاحية للدورة الثالثة و السبعين للجمعية العامة التي انعقدت في 24 من شهر سبتمبر 2018 للمخاطر التي قد تنجم عن هذا المستوى من التطور التكنولوجي حيث دعى الدول إلى التفكير في كيفية الاستفادة من التطور التكنولوجي و بالموازاة التقليل من مخاطره و اعتبره بمثابة تهديد جديد للسلم و الأمن الدوليين.
وحسب تقرير لهيئة الأمم المتحدة حول شبكة الإنترنت الصادر في 3 يونيو2011: «وبالنظر إلى أن الإنترنت أصبحت أداة لا غنى عنها لتحقيق عدد من مبادئ حقوق الإنسان، ومكافحة عدم المساواة، وتسريع التنمية والتقدم الإنساني، ينبغي ضمان حصول الجميع على خدمة شبكة الإنترنت وأن يكون من أولويات جميع الدول».
إن أجهزة الذكاء الاصطناعي كلها توظف في التدخل في الشؤون الداخلية للدول الآن حيث لم تعد الحروب حروبا تقليدية بل أصبحت حروبا الكترونية أو سيبريانية. هناك أيضا تأثير الذكاء الاصطناعي على الحرية كحق من الحقوق الأساسية. فرغم أن الانترنيت و الهواتف الذكية سهلت إلى حد كبير ممارسة الأفراد لحرية التعبير فإنها بالمقابل تساهم في تقييد هذه الحرية و ذلك لأن نفس الوسائل و التقنيات التي تشجع حرية التعبير، تسهل مراقبة هذه الحرية أحيانا كثيرة بدوافع أمنية. من يستطيع الآن أن يتحدث عن سرية المراسلات حيث يمكن لأي كان الإطلاع على الايميلات و الرسائل النصية؟ من يستطيع أن يضمن حماية البيانات الشخصية عندما يتنازل الأفراد عنها بمحض إرادتهم لشركات لا نعلم كيف و لماذا تستثمر هذه البيانات؟ إذن، هامش الحرية الذي تمنحه آلات الذكاء الاصطناعي له ثمن ألا وهو الحق في الخصوصية.
الحق في الخصوصية : تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على كمية هائلة من البيانات بما في ذلك البيانات الشخصية، والتي قد تحتوي على معلومات حساسة مثل العلاقات الأسرية والآراء الدينية والجمعيات السياسية والظروف الصحية للأفراد. خلال عملية التجميع نادراً ما يُطلب من الناس تأكيد موافقتهم على مشاركة هذه البيانات وغالباً ما يفتقرون إلى القدرة التقنية على التحكم في كيفية استخدام هذه البيانات.
أيضا و حسب تحقيق أجرته هيئة الأمم المتحدة في مارس2018 حول تصاعد العنف في مينامار فان بعض البرامج الذكية والتي تشجع و تسهل حرية التعبير ساهمت في تصاعد خطاب الكراهية الذي يعتبر السبب الرئيسي في حالة العنف التي تعرفها مينامار. و حسب نفس التقرير فإن الفيسبوك و نظامه الذكي أدى إلى تفاقم خطاب الكراهية و التحريض على العنف في هذا البلد.
ماذا عن الحق في التعليم ؟ نعم الانترنيت و الذكاء الاصطناعي يسهل الوصول إلى هذا الحق ؟ و هذا بالضبط ما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية في التسعينات من القرن الماضي تحقيقه عند إدراج اتفاقية تحرير الخدمات ضمن الاتفاقات المشمولة للمنظمة العالمية للتجارة حيث اعتبرت هذه الأخيرة التعليم الإلكتروني خدمة تباع وتشترى باعتبار مستقبل التعليم عن بعد بواسطة الانترنيت و الذي كانت الولايات المتحدة آنذاك قادرة على ضمانه كحق للأفراد كيف لا و هي من يحكم الانترنيت وهي المتربعة على عرش السيادة التكنولوجية دوليا؟
في هذا الإطار تم إلقاء أول درس من طرف روبو في شهر أكتوبر 2018 في إحدى المدارس العسكرية و كان درسا للفلسفة تفاعل فيه الربو بمهارة مع تساؤلات الطلبة.
Bina48
أول روبو يلقي محاضرة في الفلسفة بإحدى المدارس
الذكاء الاصطناعي و الذي يعتبر الانترنيت وقوده يرهن إلى حد كبير تمتع الأفراد بحقوقهم الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و العهدين الدوليين و إعلان الحق في التنمية إلى غير ذلك من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وصولا إلى ميثاق جديد وهو ميثاق مبادئ حقوق الإنسان على الانترنيت و الذي يشمل عشر مبادئ لحقوق الإنسان في الفضاء الالكتروني أولها الحق في الوصول للأنترنيت للجميع باعتباره يمكن الجميع من الوصول إلى الحقوق الأساسية من حرية تعبير و مساواة و تعليم و…..
لكن السؤال المطروح هنا كيف يمكن للدول النامية على وجه الخصوص ضمان هذا الحق الذي يعتبر في عصر العولمة التكنولوجية شرطا أساسيا لضمان باقي الحقوق الأساسية للأفراد و ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار عدد الأفراد المنخرطين في الانترنيت الذي يصل في المغرب مثلا إلى 63 في المائة؟
ثم كيف يمكن لبلد يحتوي على نسبة مرتفعة من الأمية أن يستفيد أفراده من محتوى الانترنيت للتمتع بحقوقه الأساسية و كيف يمكن للبلدان العربية أن تستفيد بشكل جيد من الانترنيت و من أجهزة الذكاء الاصطناعي مع مراعاة ضعف المحتوى باللغة العربية و اعتماد معظم الأجهزة و البرامج و التطبيقات على الانجليزية كلغة الذكاء الاصطناعي و علم الحواسيب؟
الذكاء الاصطناعي له أثار أيضا على الحقوق الاقتصادية ذلك أنها ستؤثر بشكل كبير على أرباب المقاولات الصغرى و المتوسطة في الدول النامية و التي تعمل بامتيازات مقارنة تجاوزتها الشركات الكبرى ذلك أن عامل اليد العاملة الرخيصة لن يصبح ذو قيمة في الوقت الذي يمكن فيه “لربو” واحد تعويض مئات العمال.
أيضا من أثار الذكاء الاصطناعي اختفاء مجموعة من الوظائف و ظهور وظائف أخرى جديدة تتطلب مستوى تعليمي عال، الإجازة على الأقل و مهارات معينة أهمها القدرة على الإبداع والابتكار و هذا لا يجب اعتباره مجرد تغيير بل انه سيؤثر بشكل كبير ليس فقط على الحق في العمل. و لكن أيضا على الحق في العيش الكريم الذي يعتبر الخيط الناظم لكل المواثيق الدولية.
و عموما تتراوح التقديرات بين 20 و 25٪ فيما يخص الوظائف الحالية المعرضة للاختفاء في 2030 حسب البلد. وفيما يخص بلدان شرق أسيا وشمال أوروبا ذات مستويات التعليم المرتفعة نسبياً ، ستصل إلى أكثر من 40٪ في اقتصاديات أوروبا الشرقية..
الحق في المساواة وعدم التمييز: بقدر ما يساهم الذكاء الاصطناعي في الاستفادة من الانترنيت و المحتوى الذي يشمله و يسهل التواصل بقدر ما يعزز التحيز لآراء دون أخرى و يشجع على الاستقطاب و التضليل و التمييز ضد بعض الفئات الهشة.
كل هذه التحديات تضع المجتمع الدولي أمام ضرورة إعادة التفكير في القانون الدولي لحقوق الإنسان و القانون الدولي الإنساني و مراجعتهما كما يفرض الذكاء الاصطناعي ضرورة إعادة التفكير في السياسات العمومية و التشريعات داخل كل دولة ووضع الاستراتيجيات المستقبلية الكفيلة بضمان حقوق الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي مع ضرورة إشراك كافة الفاعلين لا سيما المجتمع المدني الذي من المفروض أن يلعب دورا كبيرا في العشرين سنة القادمة لتحقيق التوازن بين خلق الثروات و التنمية الاقتصادية من جهة و حماية حقوق الإنسان من جهة أخرى.