عزيزة حلاق
لحظة اجتياز اختبار القيادة لحظة مهمة في الحياة، شخصيا حصلت على رخصة السياقة بسهولة ومن الضربة الأولى، كان ذلك سنة 1992 وكان عمري وقتها حوالي 30 سنة، وكان والدي رحمه الله يشجعني عل قيادة سيارته كنت شغوفة بهذه التجربة التي للأسف لم تدم طويلا، إذ شهورا قليلة على بداياتي مع قيادة السيارة، وكنت وقتها لا زلت تحت رحمة الرخصة البيضاء المؤقتة، تعرضت لحادثة سير لم تكن بالخطيرة، لكنها أثرت على نفسيتي بشكل كبير، إذ أصبحت يداي ترتعشان كلما أخذت المقود وجلست أمامه، وتنتابني حالة ارتباك وهلع غريبين، جعلتني أستبعد احتمال أن أسوق يوما.
وبعد عدة محاولات يائسة، أصبحت أنا نفسي حالة ميؤوس منها، وتأكدت أنني لن أستطيع تجاوز هذا البلوكاج تجاه السياقة وترسخت لدي قناعة بأنه لا يمكن لي أن أقود يوما. وكنت أقول لمن يسألني عن السبب؟ بأنني أخرجت الأمر نهائيا من مركز تفكيري ومن المادة الرمادية الموجودة في الدماغ ولا أتوقع أن أعيد التجربة البتة. ..وزادت مخاوفي مع تزايد حوادث السير وتزايد عدد السيارات بشكل رهيب، ورعونة الكثير من الرجال والتهكم على النساء اللواتي يقدن السيارات والكلام السوقي الذي تسمعه حين يقع شنآن بسيط على حق الأسبقية وعدم احترام قوانين السير.
مرت سنوات عديدة اكتفيت خلالها بالاتكال على الآخرين لإيصالي أو توصيلي أو أكتفي باستعمال وسائل النقل العمومي، مرة الباص ومرة الطاكسي. ومر الزمن هكذا سنوات وسنوات إلى أن قررت يوما اقتناء سيارة ومعاودة التدريب ودخلت في حصص مع مدرب خصوصي، لكن، للأسف لم يكن الأمر هينا ولم أفلح في تجاوز الخوف الذي سكنني. واعتمدت على ابن أختي في أن يتكفل بقيادة سيارتي وهو الذي ازداد في السنة نفسها التي حصلت فيها أنا على رخصة القيادة، يا لسخرية القدر. إلا أنني لم أسترح كثيرا للوضع وكنت أربك مواعيده وأحيانا أضطر إلى تأجير طاكسي وأترك السيارة مركونة أمام بيتي. كنت أشعر بالغبن من عدم قدرتي على اتخاذ زمام الأمور وقيادة سيارتي بنفسي.
لكن، في يوم سأذكره ما حييت، مع بداية أيام رمضان هذا العام، وبدون تخطيط مسبق، اتخذت قرارا لا رجعة فيه، يجب أن أغامر وأن أخرج وحدي وأقود السيارة، وأنا أؤمن بأنه لن يصيبني إلا ما كتبه الله لي. اخترت توقيت آذان المغرب بالضبط، لم انتظر إلى حين أن أفطر..هرولت مسرعة.. جلست في مقعد السائق، أشعلت السيارة ربطت حزام السلامة، و أدرت المحرك، حاولت استحضار دروس القيادة، وضعت قدمي اليمنى على (الفرامل) وضغطت عليها لتشغيل السيارة، تم نقلت قدمي اليسرى إلى دواسة القابض التي تتحكم في مستوى تغيير السرعات، مع التأكد أولاً من وضع ناقل الحركة، شغلته من النقطة الميتة إلى السرعة الأولى وانطلقت…كانت لحظة تاريخية بالنسبة لي .. أنا وحدي في السيارة وهي تسير بالفعل …احساس جميل والأجمل أن لا وجود لسيارة أخرى في الشوارع، وكأن المدينة خلت من سكانها ومن سياراتها، الأضواء خضراء أخالها ترحب بي وتشجعني على السير دون توقف، لا أثر لشرطة المرور في النقط الدائرية، كنت في حالة انتشاء غريبة، شعور بين الخوف من هذا الصمت الرهيب والاعتزاز بأنني سيدة المدينة، أسوق سيارتي وأجول في شوارعها وحدي ولا أصدق أنني أنا وراء المقود. أحسست بالفخر استحضرت كلام صديقتي التي كانت دائما تعيب علي خوفي من القيادة وتقول لي جملة رددت على مسامعها من صديق حين كانت هي أيضا تعاني من “رهاب السياقة “: “السياقة فن الانتباه”.
كنت أقود السيارة وكأني أصنع حدثا، بل كنت أنا الحدث، اليوم سينتقل الخبر وينتشر وسأصبح أنا حديث المدينة، سأخبرهم أنني تحررت من الرعب الذي سكنني لسنوات واجتزت الامتحان العسير في لحظة كان علي أن أنتظرها لأكثر من عشرين سنة، ما كنت أتصور أن بإمكاني فعل ذلك. دامت الرحلة من مقر مسكني بمدينة سلا، حوالي عشرين دقيقة، وصلت فيها إلى منزل أخي بمدينة الرباط. أوقفت السيارة وفق ضوابط توقف السائقين المحترفين. لم يكن الأمر بالصعوبة التي كنت أتخيلها، لم أشعر بأي توتر أو قلق. والغريب أنني لم أنتظر كثيرا، مباشرة بعد الإفطار، عاودت التجربة وخرجت في رحلة ليلية نحو الشاطئ، ووجدت نفسي أمام أمر واقع، لست وحدي بل وسط كم من السيارات الأخرى، وأناس راجلين وحركة وأضواء وضجيج….تعاملت مع الوضع وكأنني سائقة محترفة، اعتمدت مبدأ السير بأقل سرعة ممكنة، لدرجة أثارت سخط السائقين،،، لم أهتم للأمر وأكملت طريقي… أحسست ساعتها بأنني تخلصت من نوبة الهلع والتوعك والخفقان والارتعاش الذي كنت أعاني منها بمجرد التفكير في قيادة السيارة. واليوم، يمكن أن أفتخر بأنني تخطيت “فوبيا السياقة”، وبدأت أنخرط تدريجيا أنا أيضا في الزحام اليومي، احتفظ بهدوئي، وأحتفظ بملصق تحديد السرعة 90 الخاص بابنة أخي التي حصلت قبل شهور فقط على الرخصة، والتي دخلت معها في تحدي يقوم على من ستتقدم بشكل أسرع وأفضل في السياقة. وجدت نفسي أحتفظ بعلامة 90 إلى حين وأنا أدرك أن ليس لي الحق في ذلك، وحتى إن جاء شرطي واستوقفني وسألني سأقول له إنها ملصقة خلف السيارة من أجل ابنتي فرخصتها جديدة، وفي ذلك حرص على سلامتها واحترام لقانون السير وتنبيه للسائقين الآخرين بترك مسافة أمان كافية، بينها وبينهم، وإن كان الأمر في الحقيقة أنا من يرغب في الاحتفاظ بمسافة بيني وبينهم هههههه.
…