بفقدان الساحة الفنية المغربية علي بشر «قشبال»، في اليوم الثاني من شهر أغسطس/آب 2018 تكون قد انتهت حقبة مهمة من تاريخ الضحك والفرجة الشعبيين. لقد شكل علي بشر مع ابن أخيه الملقب بـ«زروال» محمد بشر تجربة الثنائي: «قشبال وزروال» منذ أواخر الستينيات، التي فرضت وجودها وطريقتها الخاصة في الإمتاع والإضحاك على الصعيد الوطني. وأهم خاصية تتميز بها هذه التجربة هي أنها وليدة الأصول البدوية، وبرحلة صاحبيها إلى مدينة سطات، استطاعت أن تفرض وجودها في ربطها بين خصوبة البادية وغنى المدينة، فتتجاوز بذلك تجارب أخرى، من النوع نفسه، ظلت حبيسة الفضاء القروي، ولهجاته وعوالمه المحدودة.
تجربة الثنائيات الفنية في الثقافة الشعبية فريدة من نوعها. كانت تتكون في معظمها من فنانين موهوبين يعزف أحدهما على آلة «لوتار»، والآخر على «البندير»، ويؤديان معا الأغاني الشعبية المرتبطة بالفضاء الفلاحي، سواء من الذاكرة الجماعية، أو مما يقومان بإبداعه. يحضران الأعراس، ويقيمان الحلقات في الساحات العمومية في الأسواق، وفي هوامش المدن والقرى. ولا يكتفي الثنائي فقط بأداء وصلات غنائية، ولكنهما، إلى جانب ذلك، يعلقان أحيانا على ما يؤديانه من غناء، أو يقوم أحدهما بسرد بعض النكات، أو يتحاوران بشكل جدالي بهدف خلق نوع من الضحك والسخرية من بعضهما بعضا، وهما يشخصان التناقضات التي يزخر بها المجتمع المغربي وهو قيد التحول. وكانت مزاوجتها بين الغناء والسرد تعطي للفرجة شبه الدرامية، التي يقومان بها طابعا متنوعا يقوم على أساس البساطة والبداهة والعمق.
ساهمت شركات التسجيل في الستينيات في تعميم تجربة الثنائيات، ونقلها من الفضاء المحدود الذي كانت تقدم فيه إلى حيثما كان جهاز الأسطوانات متوفرا. كما عملت الإذاعة وبعد ذلك التلفزيون على التعريف ببعض هذه التجارب على نطاق واسع. ومن أشهر التجارب في هذا النوع، يمكننا ان نذكر: قرزز ومحراش، وصالح والمكي، والعوني والعراش، حميد العبدي وبوشعيب الدكالي، نالت تجربة «قشبال وزروال» قصب السبق والحضور الدائم، فصارت نموذجا يحتذى به. ولعل من بين أهم الأسباب التي ساهمت في ذيوعها هي العلاقة التي كانت تجمع بين طرفيها. لقد كان قشبال عم زروال. وساهمت هذه القرابة بينهما، إلى جانب المودة الصادقة، في إطالة عمر التجربة، في الوقت الذي كانت تتعرض فيه ثنائيات أخرى للقطيعة، ويتم تغير أحد أفرادها. وهذه ميزة خاصة لم تتوفر لأي ثنائي آخر غيرهما. وهذا العمر الطويل ساهم في جعل إنتاجها غزيرا ومتنوعا، من جهة، وفي إعطائها حضورا متميزا، من جهة أخرى.
كان الضحك الشعبي في أواخر الستينيات وحتى السبعينيات مع الثنائيات، ذات الأصول البدوية، عفويا وعميقا، وصادقا. كانت العلاقات الاجتماعية هي ركيزة الموضوعات المتناولة. وكان للغات واللهجات موقعها الخاص، وهي محملة بدلالات خاصة تقوم على المفارقة. وكان لتوظيفها أثره البالغ في النفوس التي كانت تتعامل مع تناقضات الواقع ببراءة وبساطة. كان الناس يضحكون على أنفسهم أولا، قبل أن يشتركوا في الضحك على من يختلف عنهم. وأعتبر هذه الميزة وراء نجاح التجربة وفرضها نفسها على الصعيد الوطني. كانت النكت تتناول بلاهة البدوي وهو يتصرف في المدينة تصرفات تثير السخرية، أو تركز على بخل الشلح وحرصه على جمع المال، أو على عفوية الصحراوي وجديته المبالغ فيها من بين الموضوعات التي يتبادلها الجميع ويضحك منها حد السخرية البريئة. كما أن التناقضات التي أفرزها الواقع الجديد مثل ظهور المرأة والتمييز بين المرأة العصرية والتقليدية، سواء على مستوى اللباس أو السلوك، أو الفروق بين: الأعزب والمتزوج، البدوي والمديني، الحشاش والسكير، كان الكل يشترك في الضحك على نفسه وعلى عاداته وسلوكاته، وهو يراها مقدمة من خلال القصيدة الشعبية، أو النكت النقدية.
يبدو نجاح هذه التجربة واضحا في ما آل إليه التطور، خاصة في المدن الكبرى مع الفرق الكوميدية والمسرحية التي استفادت من هذا التراث الفكاهي الشعبي الذي نجد جذوره في «الحلقة»، وعملت على تطويره من خلال الحفاظ على القالب العام الذي استمدته من تجربة الثنائيات، مع تطويره على مستوى الموضوعات وطرق الأداء. كانت تجربة «بزيز وباز»، رائدة في هذا المجال، واكتسبت شعبية لا نظير لها. غير أن تجربة «الثنائيات» العصرية كانت تقتصر على الإضحاك دون الغناء، وإن كان الغناء ضمن بعض وصلات بزبز وباز، قليلة. ويمكن اعتبار ثنائي «لهناوات» امتدادا لتجربة قشبال وزروال. وجاءت ثنائيات أخرى في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات: السفاج ومهويل، أو تجارب فردية مع سعيد الناصري، وحسن الفد.
مع الضحك «العصري» تنوعت التجارب وتعددت موضوعاتها والقضايا التي تهتم بها. صار السياسي والاجتماعي يوجهان الضحك على الآخر، وليس على الذات الفردية أو الجماعية، كما كان مع الضحك الشعبي. فلم يبق الضحك ينبعث من الذات والداخل، ولكن من عدوى الحضور، فصار متكلفا، وفاشلا، وكل برامج رمضان الفكاهية تعرضت للنقد. ولعل نجاح تجربة «الثنائي لكوبل» تكمن في استعادتها لروح «قشبال». الضحك الشعبي عفوي وصادق، وما خلاه ضحك على ذقون.
٭ كاتب مغربي