المرأة التي رفضت الرتابة و أقامت في الكتابة
على هامش تكريم الأديبة المغربية خناثة بنونة بالمكتبة الشاطئية للجديدة

عبدالله والعيد – الجديدة
تعرف مدينة الجديدة، هذه الأيام، تنظيم الدورة الخامسة للمكتبة الشاطئية، و التي ستمتد من السابع عشر يوليوز الجاري إلى غاية العاشر من غشت المقبل. و ستقدم، بالإضافة إلى مكتبة شاطئية، برنامجا ثقافيا خصبا و متنوعا، يتخذ له هذه السنة شعار: جائزة المغرب للكتاب، خمسون سنة من تتويج الرواية المغربية.
في يومها الأول قامت المكتبة الشاطئية بتكريم الكاتبة المغربية خناثة بنونة. كان ذلك بعد إعطاء الانطلاقة لأنشطتها المركبة، فقد تم افتتاح المكتبة الشاطئية، كما معرض للكتاب، و كذا معرض للوحات الفنان محمد السالمي الذي خصصه لتقديم بورتريهات الأدباء المغاربة الذين فازوا بجائزة الكتاب في المغرب، صنف الرواية. حضر هذه العمليات ممثلون لعديد من المؤسسات الرسمية، أو الداعمة، و عدد من المثقفين و الإعلاميين و المرتادين.
بعد ذلك انتقل الجميع إلى قاعة العروض و الندوات بفندق بولمان حيث جرى تكريم الكاتبة. كان برنامج الحفل غنيا و منوع الفقرات، و لكن الأهم فيه هو المداخلات الثلاث التي تقدم بها تباعا كل من الشاعر المتألق صلاح بوسريف و الناقد الألمعي سعيد يقطين ثم الناقد و الروائي الودود إبراهيم الحجري.
المداخلات كانت متباينة في لغتها و محتواها، و لكنها نجحت في أن تقدم للمتلقي صورة امرأة و أديبة من عيار خاص. امتزج لديها القول بالفعل، فلا انفصال بينهما. و لا أدل على ذلك من تبرعها بالجائزتين اللتين فازت بهما ( جائزة المغرب للكتاب عن راويتها “النار والاختيار” ومبيعاتها، و جائزة القدس ) للمؤسسات الداعمة للقضية الفلسطينية، باعتبارها واحدة من القضايا التي تحضر بقوة في كتاباتها.
مداخلة بوسريف تميزت بلغتها الشعرية العالية، و بتقديمها معرفة حميمية بالمرأة قبل الكاتبة. فقبل أن تكون هناك خناثة بنونة الكاتبة القوية، كانت هناك خناثة بنونة المرأة القوية، التي استطاعت أن تفرض نفسها، بشكل مبكر، في مجتمع ذكوري، حين هربت من الزواج الذي فرض عليها في الرابعة عشرة من عمرها.
و من قفص الزواج ستقيم في هواء الكتابة، و طيلة عقود ستمارس الوجود بالكتابة و داخل الكتابة، تاركة وراءها المطبخ و الأواني و تلميع الأرضية ، و هي الخيارات الرتيبة الوحيدة التي كانت ممكنة للمرأة المغربية آنذاك، مقيمة، بدل ذلك، و بشكل أبدي، في الكتابة التي أخلصت لها، و ملأتها إخلاصا و محبة. فاقتحمت ميادين بكرا بالنسبة للمرأة المغربية، كانت قبلها حكرا على الرجال، و نشرت أول مجموعة قصصية بقلم نسائي، هي ليسقط الصمت، عام 1967، ثم أول رواية تحمل توقيع امرأة، و هي النار و الاختيار، عام 1969. هذه الاختيارات الشجاعة وغيرها التي صدرت عن امرأة تقيم فيها العاصفة، أو هي العاصفة نفسها، هي ما جعل بوسريف، في نهاية مداخلته، يشكرها لأنها لم تذهب إلى الأبناء و الزوج و المطبخ، و ذهبت إلى الكتابة.
مداخلة الدكتور سعيد يقطين التي عنونها بخناثة بنونة: المثقفة الوطنية، تجاور فيها الفردي بالجماعي؛ لأنه استثمرها للربط بين تكريم بنونة و الواقع المغربي المعاصر استشرافا للمستقبل، معللا هذا الاختيار المُـتَـعمد بما لاحظه في الوقت الراهن من غياب لروح المواطنة، سواء عند المواطن المغربي أو، بشكل أخطر، عند المثقف. و هذا الغياب هو ما يفسر كثيرا من التراجعات و الانحرافات في المجتمع المغربي، و التي لا علاج لها إلا بعودة هذه الروح.
و في هذا الصدد تمثل خناثة بنونة نموذجا للمثقفة الوطنية التي تعلو لديها المصلحة الوطنية على كل أشكال التجاذب و التدافع السياسي. لينتصر لديها الوطني و الإنساني، و هو ما تثبته مواقفها من القضايا الوطنية و العربية و كذا الإنسانية. و هي مثقفة وطنية لأنها قد اجتمعت فيها الشروط الأربعة التي تصنع هذا النوع من المثقفين:
أ ـ الجرأة في ارتباطها بالرؤية الواضحة و القناعات الراسخة.
ب ـ الصراحة بدل ثقافة المجاملة و النفاق التي تسود بين المثقفين، و تسيء للمشهد الثقافي.
ج ـ الصدق في الخطاب، و التواضع الفكري متجليا في الاعتراف بالآخر كلما كان الآخر على صواب.
د ـ نكران الذات، إذ انها لم تجئء إلى الكتابة من الحاجة أو من رغبةٍ في التزلف، و لكنها جاءتها من حبٍّ للوطن، و إحساسٍ بالمسؤولية تجاهه و تجاه الإنسان.
أما مداخلة الدكتور إبراهيم الحجري فقد تناولت التكريم من زاوية أخرى، هي زاوية جيل منتصف السبعينيات الذي تشكل وعيه الجمالي و الفكري انطلاقا من قراءة خناثة و جيل الرواد الذين رافقوها، و« أسسوا للوعي بالخصوصية، و عملوا على تثبيت دعائم الهوية الوطنية على المستوى الفكري و الإبداعي و المؤسساتي»، فوجد، ذلك الجيل، في كتابتها مساحة مشتركة تلامس وجدانه و متخيله و قلقه، و اكتشف فيها مثقفة شجاعة، ساهمت في مشروع انعتاق الإنسان المغربي من تبعات الاستعمار، و من قيود الجهل و التخلف و الأمية، تشتغل بوعي على مشروع متجانس، يندمج فيه الوطني و القومي و الإنساني، دون أن تحصر نفسها، كما شأن كثير من المثقفات، في الدائرة الضيقة لقضايا المرأة و مشاكل و إشكالات النوع.
بعد ذلك ستعطى الكلمة لخناثة بنونة التي شكرت المنظمين، وعبرت عن ابتهاجها بالحدث و بالحاضرين، واستطاعت بفعل شخصيتها المتميزة أن تحول الجلسة إلى لحظة حميمية، امتزج فيها البوح و الشكاة و التذكر و السمر الجميل. فشاركت الحاضرين شكاتها مما تعرضت له أثناء حياتها، سواء ممن سمتهم أدعياء اليسار، أو من السلطات، خاصة أثناء تجربة إصدار أول مجلة ثقافية نسائية، هي مجلة الشروق.
تقاسمت معهم، أيضا، بعضا من مشاعرها حول الإهمال الذي تعرضت له بعض كتاباتها في النقد المغربي، مقابل الاهتمام الشديد بهذه الأعمال في المشرق العربي، و خاصة مجموعتها القصصية العاصفة، و روايتها الغد و الغضب.
جددت كذلك تأكيدها على فلسفتها في الكتابة، منتقدة الكتابة المسطحة التي تفتقد للمشروعية، ولا تستند في وجودها إلا على أشياء لا علاقة لها بالإبداع؛ لأن مثل هذه الكتابة التي « لا تجد فيها فنا، و لغة خاصة بالإبداع، و حمولة فكرية، والتي تنتجها ذات فارغة و كاتب فارغ و قلم فارغ لا يمكن أن تعطيك أدبا غنيا و ثريا »، كما جددت رفضها لما يسمى بالأدب النسائي؛ لأن الأدب، بالنسبة إليها، لا يمكن تقسيمه إلى أدب رجالي و نسائي، فهو إما أن يكون، أو لا يكون.
و كانت واحدة من أقوى لحظات ذلك الاحتفال، في اعتقادي، هي عندما توجهت خناثة بنونة، بشكل تندمج فيه القسوة الرحيمة والغيرة الوطنية، إلى الجيل الجديد من كاتبات المغرب، و خاصة البعض ممن سمتهن أدعياء الكتابة قائلة: أيتها الكاتبات، أو أدعياء الكتابة، تحررن من الجسد، من الأنوثة، من الحريمية. انتسبن إلى هذه الأرض، انظرن ماذا يوجد فيها، و في إنسانها. و إلى المرحلة التاريخية و ماذا تقول لكن؟ و كيف تحسسن بها؟
الجديدة، في 20 يوليوز 2018