الأمكنة ..وشغف العبور

بقلم: إكرام عبدي*
وأنا هنا في هذا البيت العابر العامر؛ وإن كان أنا من يكتبه، لكني مجرد مخلوق ورقي ستنتهي دورة حياته مع آخر كلمة فيه، أحفره بإزميل الحروف، متحررة من ربقة الزمن، مقيمة فقط في أمزجة الكلمات، لأصل إلى معانٍ وصور ومجازات، وصولاً يحررني من ثقل الطريق وعبء امتلاكه، عبور لا يتلف منطق المكان ولا يؤلم ذاكرته ولا يكتمل إلا بالأثر الذي يتركه لدى القارئ، أمارس التشظي عبر قصاصات ومزق كلمات، وكلما عبرت أشعر كأنني تركت جزءاً مني في مكان أجهله، لي شوق وتوق دائمان لمعرفة ما يخبئه لي العبور القادم.
شغف العبور ذو منابع أصيلة، تعود لزمن قديم في ذاكرتي؛ حين كان والدي الراحل يحملنا كل أربع سنوات على متن شاحنة متنقلين بين المدن المغربية، استجابة لقرار عمله كرئيس مصلحة للبريد، لنفرد جناحي الوقت سيراً إلى اللامكان، في طريق لن تأخذنا حتماً لذات المكان، بل إلى متاهة أخرى تفضي إلى إطلاق صرخة أخرى غير صرختي الأولى، أسكن اسمي الحديث وأنسج ذاكرة جديدة، متحررة سلفاً من شعور الانتماء إلى هذا المكان القادم، الذي ليس مكاناً بحد ذاته، بل فاصل بين لحظتين أو مكانين.
في الطريق إلى قدري بعيداً عن ترف الاستقرار الذي يجود به المقام في المكان الواحد؛ كان رأسي يشتعل بأسئلة وهواجس وخيالات، فخريطة عبورنا القادمة غير مرسومة في ذاكرتي، نشيج هستيري تختلط فيه مشاعر البكاء والفقد، والتوق لاكتشاف المجهول، والأنا أيضاً، نزيف روحي متقطع، صوت داخلي يدعوني للسير إلى اللامكان، أتساءل ما ملامحه، ما شكله، ما أبعاده، ما شكل وجوهه، أسئلة غير متناهية تحف الطريق، يبدو هذا اللا مكان مصطلحاً زئبقياً يصعب القبض عليه.
الثبات في مكان واحد اعتيادي، يخلق لنا الألفة مع الأشياء والوجوه والروائح والأمزجة والأمكنة؛ ويخلق الشعور بالطمأنينة، ويقبر القلق وروح التغيير والتجدد والإبداع، فلا مجال للثبات في هذا العالم كما قال هيراقليطس، وأن (الشيء الوحيد الثابت في الحياة هو التغيير المستمر)، فسكون الماء رديف للكآبة والضيق والملل، والطريق المألوفة تأخذنا لذات المكان، ونحن نسير فيها لأن خريطتها مرسومة في ذاكرتنا، فتحتضر مساحات الخيال في أغوارنا، ومن شأن الأخذ بها أن يهدينا للمكان ذاته الذي نقصده دائماً، أما التنقل بين الأمكنة يخلق إدمان الحضور في واقع اللامكان، وبهويتنا الملفّقة من طينة هويّات عدة وعناصر أربعة، منفتحة غنية عابرة للحدود والأمكنة والأزمنة، والمنتمية فقط لمسقط الروح، ويشعرنا بكثافة الأفضية في مكان واحد، ويفقدنا شعور الامتلاك الاستبدادي للمكان وما يحوم حوله، فكيف تمتلك فضاء أنت مجرد عابر فيه؟..
*عن مجلة الشارقة الثقافية