قراءة في المهرجان الوطني للفيلم، الحقيقة غير الملتبسة
إدريس القري
توضيح مبدئي.
نقصد بالحقيقة غير الملتبسة غياب الموضوع وغياب المشروع، غيابهما في تصور هذا المهرجان. فالمهرجان الوطني للفيلم يصارع بشكل سيزيفي منذ تأسيسه، غياب رؤية وتصور ثقافي جمالي وتنظيمي يمنح المعنى لبنيته شكلا وضمونا.
تقديم.
يمكن القول بأن الدورة التاسعة عشرة من المهرجان الوطني للفيلم هي دورة الحقيقة على أكثر من صعيد. لكن مفهوم الحقيقة هنا ليس بالمعنى الساذج المتوهم للاكتمال، بل هو معنى مفتوح بل مشرع على المفارقة بكل المعاني. فهذه الدورة هي الأقوى وهي الأضعف في نفس الوقت في تاريخ المهرجان الوطني للفيلم. لا ينبغي فهم فكرتيْ القوة والضعف هنا إلا في سياقهما أي، باعتبار السياق الراهن، وما تحقق لحد الآن في الحقل السينمائي بموازاة الوضع لتحول المجتمع والدولة المغربية العام. هذه حقيقة بادية لكل ملاحظ نزيه وموضوعي. إلا أنني سأنطلق من اعتبار المهرجان الوطني في دورته التاسعة عشر هذه مرآة، مادام الأمر يتعلق بالحقيقة النسبية والمنشأة وليس المُعطاة، مرآة تعكس بشكل جدلي وضعا قائما ومستمرا في تدبير وتسيير قطاع لِصيقٍ بالحداثة كقيمة وبالتحديث لمسلسل، وبالحياة العصرية راهنيا عالميا. من هذا المنطلق لست أدري متى سيعتبر قطاع السينما ببلدنا استراتيجيا، أعني مندمجا ضمن مشروع المجتمع الحداثي والديموقراطي، الذي ما فتئت الدولة تعلن تبنيها له، بل اشتغالها عليه وتصميمها على المضي قدما في تحقيقه.
“كلام كبير عن حقل صغير” سيقول الكثيرون، لكنني أومن به بقوة التاريخ السياسي للعالم، وأعتقد أن لا شيء بنيوي سيتحقق في حقلنا السينمائي دونه للأسف، فأين المفارقات في دورتنا هذه، التي نعتبرها، مع ذلك، الأقوى والأغنى بجميع المعاني والدلالات؟
دورة المفارقات.
*- هي “أقوى” دورة من حيث شهرة وقوة الحاضر في المسابقة الرسمية من المخرجين عبر أفلامهم الأكثر إنجازية في الساحة السينمائية الوطنية كمًّا وكيفا. ولكنها الأكثر إفصاحا عن نقاط ضعف الفيلم المغربي البنيوية وهو في أوج ادعاءه للاكتمال.
*- هي “أقوى” دورة من حيث تنوع وكفاءة وشهرة أهم أعضاء لجنتي التحكيم، ولكنها الدورة التي يطرح تكوين لجنتيها أكثر من سؤال في غياب البعد الوطني تحت يافطة العالمية والكفاءة والانفتاح واستقطاب المغاربة “المهاجرين”، بشكل لا يتلائم مع كل قواعد التقليد الوطني العالمي ولو كان الأمر قد حدث سابقا. فالأمر قد يُحيل على نوع من تحقير الكفاءات الوطنية واعتبارها قاصِرة في “التحكيم”.
لقد بدت أسماء أعضاء اللجنة وتخصصاتهم وجنسياتهم المزدوجة في البداية مثيرة للجدل، فقد يكون الهدف من الخروج عن تقليد لجنة وطنية قوية لمهرجان وطني، مُضادٌّ لكل ماهو سينيفيلي وإبداعي!
في هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن وجود أسماء من لجنة التحكيم على لائحة المشتغلين من قريب أو من بعيد في بعض الأفلام المتنافسة، أمر يعتبر مثيرا للجدل بل وللتشكيك لدى البعض. بالإضافة إلى ذلك فبعض الفاعلين المتبارين إنتاجا وإخراجا يرتبطون ببعض أعضاءاللجنة مهنيا على مستويات متعددة من عملية صناعة الفيلم وترويجه وطنيا وعالميا!
*- وهي كذلك “أقوى” دورة من حيث تعثر التنظيم على مستوى التواصل والاتصال، وسلاسة تنفيذ عروض الأفلام والفقر في برمجة الأنشطة الموازية، التي تعتبر فضاءات لمحاورة ومناقشة قضايا الإبداع والإنتاج والتسويق والتمويل التي يتخبط فيها الفيلم الوطني منذ عشرات السنين. يترافق هذا الأمر مع حضور كثيف لمبدعين ومنتجين ونقاد وباحثين ومثقفين وإعلاميين كان من المفروض “تخصيب ” حضورهم ببرمجة موازية قوية وذكية وملائمة تواصليا وثقافيا.
*- وأخيرا فهي دورة يسِمُها غياب واضح لتصور إخراج فني لحفلتي الافتتاح والاختتام، رغم واجهة بلاستيكية
خادعة سرعان ما انفرط عقدها. فقد صُمِّم ونفذَ الديكور والأكسسوارات والإنارة والتقديم والتنشيط على مقاس حفل ليلي فكاهي ترفيهي سخيف، ينشطه شابان نرجسيان بشكل تافه وأرْعن، اعتادا فيما يبدو تقديم حفلات لجمهور شعبوي الذوق فارغ الجوف بل يفتقد للتربية الذوقية وكياسة الخطاب التنشيطي الرصين واللين السهل الممتنع. تنشيط لا يملك أدنى أدوات اللغة ولا الذوق السليم، تنشيط لا يفرِّقُ بين “الدسارة” وبين كعب التنشيط المقترن برشاقة الفكر وخفة الكلماتوذكاء الامساط بحالة القاعة، في حضرة جماهير من فنانين وضيوف ومثقفين ومسؤولين محترمين. تنشيط يذكر بنظرية “الزّعَامَة” التي تحصد بالفعل الشعبية وبعض المال، أما النجومية فلا “نسق” ولا “نسقيّة” لدينا بعدُ لاكتسابها.
لنوضح ما نريد قوله باختصار:
*- إن غياب تصور للمهرجان جماليا وتواصليا وثقافيا هو الكامن وراء كل أشكال الاضطراب التي تعتري فقراته من دورة إلى أخرى تنظيميا، على الرغم من وجود نساء ورجال وشباب، وعلى رأسهم مدير المركز كصاحب سلطة القرار، متمرسين ومتفانين في الاشتغال عليه ضمن إدارة بكل امكاناتها. إنه المأزق الذي يبدو للكثيرين غير ذي معنى ولكنه موجود وقائم وإلا فما تفسير تكرار الحلة غير الاحترافية لمهرجان عريق لا يهييء لا دروسا لسينمائييه ولنقاده لتبادل الخبرات ولبحث ومقارعة الرؤى الفنية، وبل ولا يهييء حتى مقاطع محترفة لأفلام المسابقة الرسمية. ناهيك عن حفلات التكريم الهزيلة التي تطرح أكثر من سؤال عن نظرة المؤسسة الوصية لنسائها ورجالها الذين أفنو العمر في خدمة الحقل السينمائي الوطني.
جميل أن نعرف مشاعر أهالي المدينة من المهرجان لكن بعد آراء أخرى أعمق وفي صلب الإشكالات التي تمس الحقل وتبين جوانب يحملها المبدعون من ضيوف هذا العرس في أعمق أفكارهم وتعابيرهم وتصريحاتهم الرفيعة!
لا ننسى في هذا السياق غياب البساط الأحمر، وحالة “اللاأناقة” المزرية التي يصعد بها الكثير من الضيوف أو المشاركون إلى خشبة ما يعتبر “عرس وطني في الجمال”. فما المانع من جعل اللباس الأنيق دون فولكلورية وبمقاييس الحداثة الصارمة شرطا لحضور المهنيين لجلستي الافتتاح والاختتام.
كيف تسمح السلطات التنظيمية لعدد كبير من الفائزين بعدم الحضور لتسلم جوائزهم لتذهب هيبة العرس الوطني الأكبر على الإطلاق سدى. فبين تسلم المنظمين للائحة الفائزين وحفل الاختتام زمن يسمح بحضور على الأقل المخرجين وأغلبيتهم الساحقة مغاربة يعيشون في أرض الوطن. أما البقية فتُسوَّى بالإشتراط القبلي إذا كان الغرض هيبة وقيمة لموعدنا السنوي هذا.
لنفرض إحترام الجميع لمهرجاننا الوطني.
“الليلة الفضيلة ظاهرة من عند العاصر؟”
كانت البداية متعثرة على مستوى التواصل. نفس الملاحظة يمكن ترديدها بالنسبة لمناقشة الحصيلة السنوية حيث لم يتوصل الحاضرون بالكتيِّب الاحصائي إلا والندوة منطلقة وبشكل ارتجالي. كتيبٌ “جاف” لا ترويه ولو جملة واحدة تقديما أو تعليقا عن الفكر أو الإبداع أو الدور النبيل أو المساهمة الثمينة للسينما الوطنية في التواصل وفي الديبلوماسية وفي التشغيل وفي العمل الجمعوي وفي التنشئة! أليس هذا الأمر دالا عن غياب أي تصور استراتيجي لحقل السينما ضمن مشروع المجتمع والدولة التي تشتغل عليها القيادة السياسية للبلاد؟
عن مناقشة الأفلام وعقمها الفادح.
بدأت العروض وتلتها جلسات مناقشة الأفلام التي تميزت هذه السنة كذلك بما يبدو وكأنه رياء ومُداهنة بل وأمية فاحشة أحيانا في التدخلات. النتيجة هي نقاش عقيم.
يطغى على جلسات مناقشة الأفلام في الغالب عدم القدرة على النظر أبعد من جزئيات وجد الكثير من المخرجين في الرد عليها بحدة أحيانا ضالتهم. يرفض بعضهم النظر بشكل مختلف لأعمالهم ما لم يقتنعوا ويُفحموا. ذلك ما يحُول دون الوقوف على نظرة كلية للفيلم كبنية متكاملة يحمل صاحبها نظرة ورؤية متناغمة ومنسجمة جماليا إذ الجمالية الممتلئة تتضمن كل العناصر الأخرى المكونة للفيلم.
يجب إعادة النظر بشكل جذري وليس هروبي أو تضييقي في جلسات مناقشة الأفلام وابتكار صيغة ذكية ممكن دائما عندما تكون الرؤية الكلية للمهرجان متكاملة الأبعاد ورفيعة الغايات.
“منين داك العويَّد؟ من ديك الشجرة.”
عن الأفلام والأعطاب الإبداعية.
اتسمت أغلبية الأفلام بإنجاز تقني وجمالي شكلي يظل رغم كل شيء وفي سياق مغربي أصيل مقبول. إلا أن غياب العطب التقني المعزول عن البنية العامة للفيلم، يؤكد حضور العطب الإبداعي المرتبط أساسا بغياب تصور جمالي بنيوى يتمثل في توازن العناصر المكونة للحكي الفيلمي بكل تجلياته.
من مؤشرات التطور الكبير في الفيلم المغربي، رغم تسلل قوي للنمطيات وللكليشيهات لدى الكثيرين، ظهور أساليب معالجة واختيارات جمالية، بالمعنى العام للكلمة، لدى عدد من مخرجينا تستمر في التبلور بشكل واعد: نذكر في هذا السياق فوزي بنسعيدي وهشام العسري ونرجس النجار وعز العرب العلوي ونور الدين الخماري وطالة حديد ونبيل عيوش، اللذين حققوا تراكما يسمح بفتح باب الحديث عن تميز في النظرة وفي المقاربة.
إلا أن مفارقات ضبط البنية العامة والتوازن الجمالي للفيلم المغربي عبر مسار الفيلم يبقى رهينا بمدى التحكم في مجمل مراحل الكتابة الفيلمية من السيناريو إلى عمليات مابعد الإنتاج كاملة.
هنا ملاحظاتٌ غالبا ما لا يُقبل الحديث عنها:
= عدم الملائمة في اختيار الممثلين جسدا وأداء لشخوصٍ لا تكون دائما مرسومة بشكل دقيق. يتم تجاوز هذا القصور مع مخرجين ذوي رؤية واضحة لشخوصهم وأدوات ذكية لإدارة ممثليهم.
= شخوص غير ناضجة في رسم تميزها، بل غالبا ما ترسم بكليشيهات من الصعب التخلص منها. يدخل في هذا السياق اختيار التعاون مع من لا يتقن إلا إعادة إنتاج النمطيات تحت ذرائع شتى، هي أساسا ضغوطات وإكراهات نفسية وثقافية أكثر منها مادية.
= ماكياج وديكورات وملابس غير منسجمة والشخوص ولا مع فيزيونومية الممثل المُختار ولا مع المواقف الدرامية للحكي. غالبا ما يكون السبب هو غياب مهنية عالية ودقة في رصد التناغم والانسجام بين هذه العناصرلانعدام التخصص أو لكثرة المهام أو لعدم تناغم فريق العمل والكسل عن التجريب من مشروع إلى آخر.
= سيناريوهات مثقلة بحوارات لا هي سلسة ولا هي دالة الشاعرية ولا هي منسجمة الموسيقية غالبا. تنفذُ على لسان أصوات جافة الطابع وأجساد لا يملك أصحابها تحريكها بانفعالات موحية ومبدعة ولا إدارة الممثل تستطيع توليد ذلك منهم.
= إغراق في بلاستيكية الصورة وضعف في اقتصاد الحكي وديناميكيته ليبقى ضمن دائرة توازن واستمرارية سلسة تمكن المتفرج من التماهي والبقاء في أجواء الفيلم. ويبدو أن هناك شيء من الاستسهال في المثابرة على التخلص من المسكوك والمألوف على قاعدة الركون للاطراء ولعادة تجنب ركوب المغامرة والشجاعة في التجريب والتجديد شكلا وضمونا.
كل ما تحدثنا عنه محكوم فيما أعتقد بالغياب الكبير للتصور الشمولي وللرؤية الإبداعية التي لا مقاربة إخراجية بدونها.
الجميل في الحقيقة غير الملتبسة.
يقودنا كل ما سبق إلى القول دون تردد بأن الفيلم المغربي قد حقق تقدما كبيرا كما وكيفا، منذ تسعينيات القرن الماضي على الخصوص، على مستوى بنيته التقنية والجمالية، لكن إشكالية الحرص على توازنِ جماليَّةٍ محددة، انطلاقا من دقة في وضع رؤية متكاملة تجمع شتات الاختيارات التقنية الجزئية، يظل هو المسؤول عن بعثرة الفيلم المغربي في بنيته الدراماتورجية العامة.
المالكون لهذا التصور ولهذه الرؤية محسوبون على رؤوس الأصابع، ولربما هناك آخرون يستطيعون الحديث عن اختيارات لكنهم لا يتوفقون في عكسها عمليا في أعمالهم السينمائية وليس هذا سياق التدقيق موضوعيا وبالتحليل في مكامن أعمالهم عن الأسباب.
لا يعني ما سبق أن لا شيء جميل في مهرجاننا الوطني وفي أفلامنا المغربية بل العكس هو الصحيح تماما فالتطور سائر كمًّا ونوعا بالتأكيد، ولا أعتقد أن السينما الوطنية كانت يوما أكثر انتعاشا مما هي عليه الآن في ظل تحولات عالمية في التواصل والإعلام وإنتاج وتوزيع وترويج الصورة بكل أشكالها.
إن ما نرغب في قوله ببساطة وكما العادة هو حاجة الحقل السينمائي الوطني بسبب هذه التحولات بالذات وطنيا وعالميا، ومن أجل مسايرة التغيير والتحديث ومواكبة:
تفعيل رافعة السينما كاستراتيجية للإبداع وللثقافة، وكدبلوماسية موازية، وكآلية للتشغيل، وللتنمية الصناعية، وللتواصل الجماهيري، وللتنشئة على المشترك وعلى الوعي بجماليته الواجب حفظها وصيانتها، ولحفظ الذاكرة الجماعية، ولترسيخ تقليد الانفتاح على الغير المختلف، ولتفعيل البعد الكوني في بناء المواطنة … كل هذا وغيره يشكل أساس ملتمس وضع مهرجاننا الوطني في سياق ذا نظرة جمالية رصينة ومتكاملة ومندمجة.