في مهرجان “كان”… فاطمة حاضرة

فاطمة حسونة …ماتت ..كما أرادت ..موتٌ صاخب، وذاكرة لا تُمحى.
“إذا متُّ، أريد موتًا صاخبًا. لا أريد أن أكون مجرد خبر عاجل أو رقم في مجموعة. أريد موتًا يسمعه العالم، وأثرًا يبقى عبر الزمن، وصورة خالدة لا يمحى أثرها بمرور الزمان أو المكان.”
بهذه الكلمات كتبت فاطمة حسونة على حسابها في إنستغرام قبل أسابيع من استشهادها، وكأنها كانت تشعر بأن موتها لن يمر بصمت، وأن العالم سيستفيق على وقع خبر رحيلها في غارة إسرائيلية غادرة شمالي قطاع غزة.
في افتتاح الدورة 78 لمهرجان “كان” السينمائي، وقفت النجمة الفرنسية جولييت بينوش، رئيسة لجنة التحكيم، بكلمات خاشعة مؤثرة، تستحضر روح المصورة الصحفية الفلسطينية فاطمة حسونة، قائلة:
“كان من المفترض أن تكون فاطمة معنا اليوم عند عرض فيلمها، لكننا نفتقدها الآن.”
قالت بينوش بصوت امتزج فيه الأسى بالفخر:
“كان يجب أن تكون فاطمة بيننا هذا المساء… لكن الفن باقٍ، إنه الشاهد الأقوى على أحلامنا وعلى حياتنا.”
ثم صمتت لحظة، وكأنها تنصت لصدى فاطمة البعيد، قبل أن تتابع حديثها عن الشابة التي فقدت حياتها مع أفراد من أسرتها تحت أنقاض صاروخ إسرائيلي، بينما كانت حكايتها حاضرة في الفيلم الوثائقي “ضع روحك في يدك وامشِ” للمخرجة الإيرانية سيبيدة فارسي، المعروض ضمن برمجة المهرجان هذا العام.
كانت كلمات بينوش أكثر من مجرد تحية؛ كانت رثاءً إنسانيًا وموقفًا فنيًا يُعلن أن العدسة التي كانت بيد فاطمة لم تُكسر، بل تحولت إلى مرآة كونية تعكس وجع شعب، وصمود روح، وعزيمة امرأة اختارت أن توثق الحياة وسط الموت.
وإن غابت فاطمة بجسدها، فقد حضرت بكل قوتها في افتتاح “كان”. حضرت على الشاشة، وفي الضمير العالمي. عدستها، التي خلّفت وراءها مئات الصور، وثّقت وجع الأرض وتضحيات البشر، وكانت تعرف جيدًا كيف تلتقط الحقيقة من بين ركام الدمار.
كاميرتها لم تكن مجرد أداة، بل كانت أداة مقاومة، تكشف وتفضح جرائم الاحتلال. عيناها كانتا مرآة لمعاناة الشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت وطأة الحرب منذ 7 أكتوبر 2023، وكان قلبها يحمل إيمانًا عميقًا بضرورة توثيق ما يجري مهما كانت الكلفة.
قبل استشهادها بأيام، كانت فاطمة تستعد للاحتفال بزفافها. كانت ترتب لحظات الفرح وتحاول سرقة لحظة حياة وسط الموت المتربص. لكن الموت باغتها قبل أن تُزف عروسًا، فزُفّت شهيدة.
في الفيلم الوثائقي الذي يحمل شهادتها الحية، تظهر فاطمة وهي توثق الغارات الجوية، دمار منزلها، ونزوحها المتكرر. الفيلم تحوّل إلى شهادة دامغة على معاناة الصحفيين الفلسطينيين تحت القصف، وصرخة ربما ستصل هذه المرة إلى ضمير العالم.
روى ابن عمها، حمزة حسونة، تفاصيل الغارة التي أودت بحياتها قائلاً:
“كنت جالسًا عندما انفجر صاروخان فجأة، أحدهما بالقرب مني والآخر في غرفة المعيشة. انهار المنزل فوق رؤوسنا، وكانت لحظة مأساوية لا توصف.”
ماتت فاطمة، لكنها تركت وراءها صورًا لا تُنسى، ماتت كما أرادت تمامًا.
موتٌ صاخب، وذاكرة لا تُمحى.