كيف صنع بودشار فنّه من جمهوره؟

رحلة بودشار الموسيقية: من التلقي إلى التجلّي
حديث بسمة / عزيزة حلاق
في زمنٍ تتقاذف فيه الأغنية العربية بين ضجيج الإيقاع وسطحية الكلمات، يطلّ علينا الموسيقار المغربي أمين بودشار بتجربة فنية فريدة، تضع الجمهور في صميم العرض، لا كمتلقٍ فقط، بل كنجمٍ حقيقي على خشبة الغناء.
كلما صادفت عرضًا جديدًا له على “يوتيوب”، أعود بذاكرتي إلى تلك اللحظات الآسرة التي تُنسيك صخب اليوم، وتُلقي بك في حضرة الجمال الخالص. عروضه المتنقلة بين العواصم العربية والغربية ليست حفلات بالمعنى التقليدي، بل لقاءات إنسانية عميقة، يكون فيها الجمهور هو النجم، والموسيقى هي اللغة الوحيدة.
عشت تلك اللحظة قبل نحو عام، حين حضرتُ إحدى أولى حفلاته بمسرح محمد الخامس بالرباط. ما زلت أذكر كيف امتلأت القاعة عن آخرها، العرض بشباك مغلق، كما لو أننا أمام حدث لا يتكرر. وكان كذلك فعلًا. لحظة انصهار نادرة، جمعت جمهورًا موحد اللباس، أبيض الروح، يُنشد روائع الزمن الجميل – مغربية وعربية – بكل ما في القلب من شغف وصدق.
أمين بودشار لا يعتلي الخشبة ليُبهر، بل ينسحب خطوة إلى الوراء، ويمنح الجمهور فسحة الضوء والصوت. لا وجود لنجم متفرّد، بل كورال ساحر، يُتقن الغناء والإصغاء، ويذوب في موسيقى تُلامس الوجدان.
لقد خلق بودشار شكلًا جديدًا من العلاقة بين الفنان وجمهوره. منحهم المساحة ليغنّوا، لا ليصفّقوا فقط. منحهم الأمان ليحسّوا، لا ليستهلكوا. جعل من الفن فعل مشاركة، لا استعراض، ومن الموسيقى رسالة، لا مجرد مؤثرات وبهرجة.
وبينما يغرق المشهد الغنائي في موجات من الصخب والتفاهة، يصر بودشار على أن الفن الأصيل لا يزال ممكنًا. يصر على أن الجمهور العربي ليس “سهلًا” كما يُقال، بل ذواق، حساس، شغوف… متى خاطبته بإخلاص واحترام.
ما يُميز هذه التجربة أكثر، أن بودشار لا يُكرر نفسه. في كل عرض، يبحث عن الروح الجديدة. كثيرًا ما يُدمج فقرات فنية متنوعة: يستضيف فنانين شبابًا ويمنحهم منصة للظهور، أو يفسح المجال لفرق شعبية مثل عيساوة أو كناوة أو الركادة، ويعيد تقديمها بتوزيع موسيقي مبتكر يجعلها تتناغم بسلاسة مع روح العرض.
وأحيانًا يُفاجئ الجمهور باختيار أغنية عالمية، أو بعرض كوريغرافي عصري يضفي على الأمسية بعدًا بصريًا ساحرًا.
من المغرب إلى مصر، من تونس إلى الإمارات، من باريس إلى مراكش وأكادير… تتنقّل عروض بودشار كرسائل موسيقية عابرة للحدود. وفي كل محطة، يكون الانتظار طويلًا، والإقبال كبيرًا، والعروض تُعلن “شباك مغلق” منذ أيامها الأولى. كأن الجمهور وجد ضالته: فن راقٍ، صادق، بلا تصنّع ولا ضوضاء.
وفي قلب هذا المشهد، تولد لحظات سعادة حقيقية:
جمهور مبتسم، منتشٍ، يغني ويرقص ويتفاعل.
فرقة موسيقية متعددة الجنسيات، تؤدي بتناغم مذهل.
وفنان يقف وسط المسرح، لا ليتصدّر، بل ليوجّه بخفة وذكاء، وينسج لحظة جماعية ساحرة.
ما يصنعه بودشار ليس مجرد عرض فني، بل تجربة شعورية كاملة. الجمهور هو الفنان. لا نجم أوحد في الوسط، بل مئات الأصوات تردّد أغاني الزمن الجميل، بإحساس واحد، ولباس أبيض موحّد، كأنهم كورال كوني يغني ويطرب باسم الفن والجمال والإنسان.
خرجت من الحفل، محمّلة بلحظة لا تُنسى. لم يكن مجرد عرض موسيقي، بل كان “علاجًا شعوريًا” (cure d’émotion)، حيث يذوب الفرد في طيف جماعي عذب، ويُستعاد الإيمان بجمال الفن وأثره العميق في الأرواح.
أن تنجح في إدارة هذا المشهد، بروح واحدة، دون أن تفقد شيئًا من صدقه وسحره…
يجب أن تكون أمين بودشار..