تشيخوف والحظ الضائع:هل سيحالفني الحظ اليوم؟

عن أقصر قصة كتبها أنطون تشيخوف وعن الحظ الذي قد يطوي أعمارنا بدل أن يمنحنا الحياة.
في زحمة الأيام، وفي عالم يتغير أسرع مما نستوعب، يلوذ كثيرون بفكرة “الحظ” كطوق نجاة. يتمنونه، يترقبونه، وأحيانًا، يُقعدون أنفسهم في انتظاره كما لو كان موعدًا مقدّسًا، أو حقًا مكتوبًا على جبين القدر. لكن… ماذا لو كان هذا الانتظار هو ما يسرق منا الحياة نفسها؟
هذا هو بالضبط ما أراد أنطون تشيخوف، الأديب الروسي الكبير، أن يقوله من خلال واحدة من أقصر قصصه، وأكثرها اختزالًا للفكرة. القصة التي تتكون من جملة واحدة تقريبًا، لكنها تختصر عمقًا وجوديًا مدهشًا، تقول على لسان راويها:
“منذ أربعين سنة، عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، عثرت في الطريق على ورقة مالية فئة العشرة روبلات؛ ومنذ ذلك اليوم، لم أرفع وجهي عن الأرض أبداً.”
هكذا، وبلغة شديدة التكثيف، يرسم تشيخوف مآل حياة بأكملها، ضاعت في انتظار حظ قد لا يتكرّر. الشاب الذي عثر مصادفة على مبلغ من المال، قرّر – من حيث لا يدري – أن يُخضع حياته لمعيار الحظ وحده. فانحنى، حرفيًا ومعنويًا، بحثًا عن “صدف أخرى” على الأرض، ناسياً أن الحياة تحدث فوق، في السماء المفتوحة، في الأفق الذي تجاهله.
وبدل أن يحصد نجاحًا آخر، وجد نفسه بعد أربعين عامًا يملك: “آلاف الأزرار والدبابيس، بضع سنون أقلام، ومنديلًا.” تذكارات تافهة لا تليق بعمرٍ ضاع في الانحناء.
لقد حوّل الحظ حياته إلى سلسلة من الانحناءات العبثية. ظهره انحنى، وحياته انكمشت، وخسر ما هو أعظم: نظرته إلى الأفق، وتطلعه نحو الغد.
تشيخوف… من المشرط إلى المسرح
أنطون تشيخوف (1860 – 1904) لم يكن مجرد كاتب، بل كان طبيبًا أيضًا، ومراقبًا بارعًا للنفس البشرية. عاش حياة قصيرة نسبيًا، لكنها كانت مفعمة بالإنتاج الأدبي الدقيق، الساخر، والمشحون بإنسانية عميقة. كتب القصة القصيرة والمسرحية، وكان من أوائل من جعلوا التفاصيل اليومية العادية بطلاً للنص. لم يحتَج إلى حبكات درامية كبيرة، بل اكتفى بشقوق النفس، ونبض الأعماق، ليصوغ منها أدبًا خالدًا.
نشأ في عائلة فقيرة، وكان والده بقالًا شديد التسلط. ورغم الصعوبات، واصل دراسته، ليصير طبيبًا ثم كاتبًا شهيرًا. حياته كانت أكبر دليل على أن النجاح لا يأتي من صدفة، بل من اجتهاد وصدق وتجربة حية مع الألم.
ضد “الفرجة على الحياة”
تشيخوف كان ساخرًا رقيقًا. لا يصيح، بل يبتسم ابتسامة حزينة، ويضع المرآة أمام القارئ. قصته عن “الحظ” ليست فقط نقدًا لمن ينتظرون، بل دعوة للاستيقاظ. دعوة لكل من غرقوا في البحث عن “فرص ضائعة” تحت أقدامهم، بينما الحياة تدعوهم للنظر إلى الأمام.
لقد آمن أن الإنسان هو المسؤول عن حياته، وأن الاعتماد على الحظ وهم جميل لكنه مكلف. قال في إحدى رسائله:
“الانتظار يقيد الإنسان، ويحرمه من فرص صنع مستقبله بيديه.”
وفي لحظة أخرى، كتب:
“الشجاعة ليست في انتظار الحظ، بل في خوض المعركة رغم الخوف.”
أيّ حظ ننتظر؟
ربما تساءل الكثير منا صباحًا، عند مواجهة عقبة أو حلم متعثر: هل سيحالفني الحظ اليوم؟
لكن تشيخوف يرد علينا من خلال قصته القصيرة: الحظ ليس موعدًا قدريًا، بل أفق نراه حين نرفع رؤوسنا.
العمل، الاجتهاد، والخروج من منطقة الانتظار، هي وحدها ما يصنع الفرق.
في زمن تُباع فيه الوصفات السحرية للنجاح، وتُسوّق فيه “الفرص” كما لو أنها تسقط من السماء، يأتي صوت تشيخوف ليذكّرنا بلطافة وصرامة: “ارفع رأسك. لا تبحث عن المستقبل في التراب، بل اصنعه بيدك.”
ومضة ختامية
الحظ قد يمر مرة، وقد لا يمر أبدًا. أما العمل، فهو الشيء الوحيد الذي بإمكانك أن تراهن عليه دون خيبة.
فلنسأل أنفسنا: كم مرة انحنى ظهرنا بحثًا عن فرصة؟
وربما آن الأوان لأن نعتدل، وننظر إلى الأفق، بثقة الذين قرروا أن الحظ ليس قدرًا، بل قرار.
تشيخوف كان يؤمن أن الحياة ليست لعبة حظ فقط، بل هي اختبار للإرادة والصبر والعمل. قال في إحدى رسائله:
“ليس في الحياة ما هو أجمل من العمل، لأن العمل هو الذي يعطي لحياتنا معنى وقيمة.”
“لا تلوم القدر ولا الحظ إذا فشلت، بل انظر إلى نفسك، فقد كنت أنت من أعاق طريق النجاح.”
فهل نبدأ الآن؟