انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
أخبار بسمة

وداعا جون لوك غودار ….” وداعا للغة”….

غودار: ”جميع أولئك الذين ينقصهم الخيال يلجؤون إلى الواقع”..

بقلم: فؤاد زويريق

إطلالة سريعة على الموجة الجديدة بفرنسا وعلى سينما جون لوك غودار الذي غادرنا قبل يومين من خلال فيلمه ”وداعا للغة” المقال كتبته يوم صدر  الفيلم سنة 2014.

يخلق المفاجأة من خلال فيلمه ”وداعا للغة”، فيلم لم يقفز خارج زمن مخرجه ومسيرته بل بقي وفيا لأسلوبه السينمائي، مخلصا لتجربته الإبداعية، فكما يعرف الجميع أن غودار من رواد الموجة الجديدة بفرنسا، وهي حركة سينمائية شبابية ظهرت أواخر الخمسينات وبالضبط سنة 1959، ولمن لا يعرف هذه الحركة فهي حركة سينمائية ثورية قامت بالتمرد على المفاهيم السينمائية الأولى، غيرت مضمونها وكسرت قيودها التقليدية لتتبنى أساليب جديدة بعيدة كل البعد عما كانت تعرفه الشاشة الكبيرة في ذلك الوقت، تماهت مع الظروف القاسية التي كانت تعيشها فرنسا ما بعد الحرب، وحاولت تأسيس إطار جديد يؤطرها بعيدا عن الميزانيات الكبيرة والتقنيات الضخمة المكلفة التي كانت تعتمدها الصناعة السينمائية، الحركة خلقت لنفسها معايير وقواعد خاصة بها استحسنها المتلقي بل أدهشته لتصبح اكثر شعبية ومتابعة بين شباب تلك المرحل.

انطلقت مسيرة هذه الحركة من النقد، حيث تحول العديد من النقاد السينمائيين الفرنسيين إلى مخرجين، وخصوصا أولئك الرواد الذين ارتبطوا بمجلة ”دفاتر السينما” العريقة أمثال جان لوك غودار، وفرانسوا تروفو، وكلود شابرول، وأندريه بازان، وإريك رومير…تخلصوا من نظرياتهم وحملوا كاميراتهم الخفيفة وانطلقوا إلى الفضاءات الطبيعية الشاسعة بعيدا عن الاستوديوهات المغلقة، خلقوا بفضل توجهاتهم الجديدة آليات عمل مختلفة، تخص التقنيات والأساليب، من تمثيل وتصوير ومونتاج وإنتاج وإخراج… الخ.. وهكذا تكونت مفاهيم أخرى للسينما، و أسست مدرسة جديدة انضافت إلى المدارس الأوربية الأخرى، تلك التي أثرت في تاريخ السينما العالمية بقواعدها وتنوع ثقافاتها كالمدرسة التعبيرية الألمانية، والمدرسة الواقعية الإيطالية، والواقعية الشعرية الفرنسية، والسينما الثورية السوفيتية، والواقعية الاجتماعية البريطانية…

جان لوك غودار مازال ينهل أساسياته ومبادئه من هذه الحركة رغم أفول إشعاعها خصوصا بين الجمهور العادي، وهذا ما نلمسه في فيلمه ”وداعا للغة”، الذي مارس من خلاله شغبه التجريبي وعشقه الإبداعي، مجموعة من المشاهد المتناقضة أثثت هذا الفيلم، مشاهد لم تؤخذ لإثارة المتلقي والترفيه عنه، بقدر ما استعملت واستغلت لخلق القلق داخله، وتحريك فكره وتنبيهه إلى المحتوى بعيدا عن الصورة (عبارات فلسفية، وأدبية، ومسرحية… كلب متسكع، موسيقى كلاسيكية، سفينة مبحرة، هدوء، صراخ، شجار، دم، خلفيات سوداء قاتمة، كتب، ثلج، ربيع، أشخاص بلباس وبدونه، أصوات خلفية… ) كلها عناصر اعتمد عليها الفيلم لتمرير رسالة معينة، بعيدا عن سيرورة المشاهد المكونة للسرد الحكائي المتعارف عليه سينمائيا.

يحذرنا غودار في بداية الفيلم بعبارة ”جميع أولئك الذين ينقصهم الخيال يلجؤون إلى الواقع” ثم بكلمة ”وداعا” باللون الأحمر، أما مشاهد الفيلم الأولى فإنها تبتدئ بأصوات القنابل والرصاص ولقطات من الحرب، يتبعها مشهد بالأبيض والأسود، مشهد سعادة وفرح للممثلة جون أرتور من فيلم أنتج سنة 1939 وهو ”الملائكة فقط لها أجنحة”  لهوارد هوكس، لتنتهي بلقطات للكلب روكسي، هذا الأخير الذي يظهر في جل المشاهد اللاحقة، بل يختتم به الفيلم أيضا.

الكلب روكسي ليس حيوانا عاديا فقط بل هو شخصية رئيسية في الفيلم، و من خلاله نقل إلينا المخرج الكثير من الرسائل والأفكار، بل وظفه كشعار للطبيعة، فهو الوحيد الذي مازال يمثلها -حسب الفيلم- لأنه لم يفقد بصيرته جراء الوعي كالإنسان، و لأنه مازال عاريا، ففي المقاطع الخاصة بالطبيعة يظهر الرجل والمرأة عاريين تماما، وما لبثا أن ارتدايا ملابسهما من جديد.. الإنسان انتزع طبيعته وابتعد عنها وتعلق بالحداثة التي أصبحت تتحكم بمصيره إلى درجة أنه أصبح يعيش داخل الآلات، حياته تتوزع بين التلفاز، والسيارة، وآلة التصبين، والهاتف… ببساطة أصبحت تكنولوجيا العصر تتحكم في مساره وأفكاره، بينما الكلب يتنقل من فصل إلى فصل، داخل أحياء المدينة وخارجها، في الطبيعة وفي البيت، وهو كما هو عار مجرد من كل شيء إلا الوفاء.

فيلم ”وداعا للغة” قصيدة سينمائية بمقاطع ذات أبعاد ثلاثية، جزأها المخرج إلى مجاز وطبيعة وتاريخ، لكل جزء خاصية تميزه دون ترابط زمني ولا مكاني ولا فكري، حيث تتعدد الرؤى والأبعاد، وتنفصل الصور والأشخاص، ما يجمع الكل التناقضات، وما يفرقهم اللغات، بطل الفيلم هو غودار نفسه الحاضر بفلسفته وفكره ولسانه أيضا، يتكلم بالكتب ويعبر بقلمه، قلمه هنا عدسته، يرفعها إلى الفوق، ينزلها إلى التحت، يتلاعب بها كيفما شاء، يفتحها لينقلنا عبرها داخل الكادر، ثم يغلقها ليتركنا نستشف ما يجري خارجه، يتنقل بها ومعها بين الزاويا بعشوائية مدروسة، يغوص بها داخل الإنسان، يتركها تستسلم للحيوان/الكلب روكسي، تتقاذفها الكلمات والعبارات، تلك التي يربطها خيط طويل مشكل من الفلسفة والفن والسياسة والموسيقى والمسرح… حيث نلتقي بالكاتبة ماري شيلي الحاضرة بتاريخها وبداياتها الأولى وذلك عندما يروي غودار حكاية التقائها وعائلتها باللورد بايرون على ضفاف بحيرة ليمان سنة 1816.

الأديب الروسي ألكسندر سولجنيتسين حاضر أيضا بروايته “أرخبيل الغولاغ”، دوستويفسكي بروايته الشياطين، والاثنان معا حاضران أيضا بصورهما الشخصية في الهاتف الشخصي لإيزابيل، حيث كانت تبحث عنهما من خلال محرك البحث غوغل، دافيتسون كان يقرأ وايزابيل كانت تتصفح هاتفها، في المشهد التالي انعكست الصورة، دافيتسون يبحث داخل هاتفه بمعية الشاب صاحب الكُتب، يتبادلان الهواتف بصمت بينما صديقته تتصفح كتب متنوعة من الأدب الكلاسيكي… هي إذن تعابير أو رموز تعكس نظرة غودار إلى الحياة المعاصرة وهو الكاتب المخرج المخضرم الذي عاصر القديم والجديد أيضا.

غودار سافر بنا عبر الزمن وبعث الشاعر الأمريكي عزرا باوند من جديد، وكذلك الفيلسوف الفرنسي جاك إيلوي، وهتلر، وصمويل بيكيت، وبتهوفن، وجان أنويه… وغيرهم من الشخصيات التي تمثل الرسم والموسيقى والسياسة والأدب والمسرح، كل شيء كان مختلطا فوضويا لكن بجمال وإتقان، أما القصة فعبارة عن كلمات وصور، واللقطات عبارة عن أقوال متناثرة وأسئلة مركزة، خريف ثم ثلوج ومطر ورياح وصقيع، يعقبهما الربيع بأزهاره ووروده وبه يختتم الفيلم حصته، نعم حصته وكأننا أمام درس جامع شامل خارج الزمان وداخله، وهو كذلك، والشاهد على كل هذه التعاقبات المتباينة الكلب روكسي.

كل هذه الفوضى تتخللها من حين إلى آخر شاشة تلفاز كبيرة في صالون البيت، ربما لتفسر لنا دور الشخصيات في تركيبة الفيلم، أو لتعكس لنا رؤى غودار في مشاهده المسترسلة، وفي كلتا الحالتين يمكن اعتبارها البعد الرابع في هذا الفيلم، لنأخذ مثلا مشهد الجلسة الحوارية بين جوزيت ورفيقها في صالون البيت، ومن خلفهما مشهد من فيلم ”دكتور جيكل والسيد هايد” نسخة 1932 للمخرج روبن ماموليان، تعرضه شاشة التلفاز الضخمة. لمعرفة سياق هذا الإقحام المتعمد للمشهد الكلاسيكي داخل فيلم غودار، علينا ان نرجع أولا إلى فلسفة الفيلم وماهيته، لنجد انه يتناول الطبيعة البشرية وعمقها السيكولوجي المنفلت بين الخير والشر، وهذا المشهد تزامن مع تحذير جوزيت لرفيقها ونصحه بأن يغادر وألا يبقى هنا، ليجيبها بأنه ليس خائفا، لترد بأن الكل يخاف اليوم. وهنا إشارة من غودار إلى الطبيعة البشرية وتمزقها النفس.

فيلم غودار أيقونة أخرى تنضاف إلى أيقوناته السابقة، ويؤكد لنا بقوة أن الرجل مازال قادرا على العطاء وبسخاء في مجاله هذا، فرغم زحف التقنيات المتطورة واكتساحها لهذا ميدان إلا أن ذلك لم ينتقص من تجربته، ولم يجعله يتخلى عن أسلوبه ولغته السينمائية المعروف بها، بل استغلها بطريقة ذكية وهذا ما شاهدناه إثناء استخدامه لتقنية الصورة الثلاثية الأبعاد، وجعلها وسيلة أخرى من وسائله لصدم المتلقي وإخراجه من شرنقة الخمول الفكري، فمهما كتبنا عن الفيلم لن نوفيه حقه ولن نحيط بكل جوانبه المتشابكة، فهو لوحة فنية فريدة يصعب تحديد زواياها والاهتداء إلى أسرارها حيث تتداخل فيها كل الأجناس والفنون، نهايتها صرخة وبدايتها صرخة أيضا.. البداية حرب، والنهاية ولادة.. مشاعر إنسانية متدفقة بين الأولى والثانية، وأسئلة متراكمة تحاول فهم الإنسان وتفكيك شخصيته.

فبقدر ما يجعلنا هذا الفيلم نتوغل داخل أنفسنا، يجعلنا نخاف منها أيضا، أما خلاصته فتحيلنا إلى تحليل الصورة ومن يقف خلفها وقدرتهما معا على خلق وإبداع فكر مواز لهما لدى المتلقي.

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا