بقلم: عبد الرفيع حمضي
يُعد القضاء النزيه والمحايد والمستقل واحدًا من أهم الأعمدة الأساسية التي يقوم عليها أمن واستقرار المجتمعات. فهو من أبرز الضمانات الحامية لحقوق الإنسان وحرياته.
وبالتالي فمن الإشكاليات الكبرى التي شغلت رجال القانون والقضاء والفقه عبر العصور، وكتب فيها الشيء الكثير، إشكالية الحقيقة الواقعية والحقيقة القضائية.
أي هل يجوز للقاضي، سواء كان جالسًا أو واقفًا، وهو يُكيّف أو يحكم في قضية معينة، أن يقوم بذلك بناءً على علمه الشخصي وما عايشه أو علمه خارج مجلس القضاء (الحقيقة الواقعية)؟ أم أنه ملزم بالامتثال والانضباط في تكييفه أو حكمه وفق حدود الأدلة والحجج والوثائق والشهود التي تُعرض أمامه؟ (الحقيقة القضائية).
هذا السؤال سيطر على تفكيري وأنا أتابع اكتساح وسائل الإعلام العالمية بالتعليقات على قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي باعتقال المسمى بنيامين نتنياهو، ذو السوابق الاجرامية، من مواليد 21 أكتوبر 1949، متزوج وأب لثلاثة أولاد، ويشغل منصب رئيس وزراء إسرائيل. وذلك لارتكابه أفعالًا لا يسري عليها التقادم، الثابتة قانونيًا وبالأدلة القاطعة أنها تُعد جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتُكبت في الأراضي الواقعة ضمن نفوذ الأمم المتحدة (فلسطين ولبنان)، وهي تخضع للاختصاص القضائي الترابي والنوعي للمحكمة الجنائية الدولية. تلكم عناصر المحاكمة العادلة.
تصورت حينها كم هو سعيد كريم أحمد خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وهو يوقع على قراره، باعتباره حقيقة قضائية مدعومة بالحجج والأدلة التي عُرضت أمام مكتبه في لاهاي. لكنه في الوقت ذاته إقرار قضائي يعكس حقيقة واقعية راح ضحيتها آلاف الشهداء، يعاني منها الأحياء المشردون والمصابون والمهجرون الجائعون والمرضى منذ 14 شهرًا في غزة وقبلها بعقود في كل فلسطين .إنها حقيقة لا يعلمها كريم أحمد خان وحده، بل يشهد عليها العالم أجمع.
لا شك أن القرارات القضائية، سواء كانت صادرة عن سلطة الادعاء أو التحقيق أو الحكم، لا تستمد هيبتها وقوتها من منطوقها فقط، بل من القدرة على تنفيذها. لكن قرار كريم خان، رغم صعوبة تخيل أن إحدى الدول الـ 124 المصادقة على ميثاق روما ستُقدِم على اعتقال نتنياهو المطلوب دوليًا، فإنه يعد وسيبقى قرارًا تاريخيًا وصدعًا في طبقة “اللازونية” التي لن تُرمَّم أبدًا وذلك لحجم المطلوب دوليًا لا لشخصه البئيس، ولكن لرمزيته وحمايته الأمريكية ولاعتبارات أخرى منها:
- المحكمة الجنائية الدولية مؤسسة قضائية حديثة تأسست عام 2002، وليست لا من اجهزة الامم المتحدة ولا من مؤسساتها أو وكالاتها. وهي معنية بملاحقة الأفراد، حيث شكّل إنشاؤها ثورة حقيقية في منظومة العدالة الدولية وحماية حقوق الإنسان.
- أصدرت هذه المحكمة حتى الآن عشر مذكرات توقيف، شملت شخصيات بارزة مثل فلاديمير بوتين (روسيا)، عمر البشير (السودان)، سلوبودان ميلوسوفيتش (صربيا)، لوران غباغبو (كوت ديفوار)، تشارلز تايلور (ليبيريا)، أوهورو كينياتا (كينيا)، فرانسوا بوزيزيه (إفريقيا الوسطى)، وسيف الإسلام القذافي (ليبيا).
- جرائم قتل الفلسطينيين لن تبقى مسجلة في وثائق وأرشيف المحكمة الجنائية الدولية ضد مجهول. فها هي الحقيقة القضائية تتطابق مع الحقيقة الواقعية.
- القرار يُسقِط القناع عن الإعلام الغربي وغيره، الذي فشل في حجب الحقيقة عن الشعوب التي خرجت إلى الشوارع منذ البداية. فالمحكمة بهذا القرار تنصفها.
- سلاح “معاداة السامية” الذي كان يُشهَر بقوة في وجه كل من ندّد بجرائم الإبادة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، أصابه الصدأ ولم يعد صالحًا.
- القرار يُعدّ ضربة قوية للمؤسسات السياسية والقضائية الإسرائيلية، التي لم تستطع الحد من عدوان قادتها وجيشها، وهي التي تدّعي أنها واحة ديمقراطية في محيط “همجي”.
- القرار سيجعل نتنياهو يعيش أحلك أيامه، خائفًا ومرعوبًا على المستوى الشخصي، وهو الذي يدّعي في الفضاء العمومي القوة والشجاعة والفتوة .
تحكي السيدة أودري لوفيفر، Audrey Lefèvre الفرنسية الجنسية، التي عملت خبيرة تجميل Maquilleuse في البيت الأبيض ، حيث قدمت خدماتها للرؤساء بيل كلينتون وزوجته، ودونالد ترامب وحرمه ، وجيل Jill بايدن السيدة الاولى الآن وبَعْلُها جو الرئيس المنتهية ولايته ،ومن بين ماقلت أنها عاينت بنفسها حالة الرعب التي يعيشها بنيامين نتنياهو عندما طلب منها أثناء زيارته لواشنطن ان تقوم بصيانته وتجميله لتصلح ما أفسده بأفعاله عبر الزمن ، وليبدو أكثر ثقة أمام العالم.
في الختم، يبقى أن القضاء المحايد والمستقل والنزيه الضامن لحماية الحقوق الإنسان، هو في المقام الأول قيمة أخلاقية، وإن كان يصطدم باستمرار بالسياسة كمجال لتدبير المصالح.