“كاستينغ” الهروب الكبير

بسمة نسائية/ أصواتهن
بقلم: زكية حادوش
تبدو المملكة الإسبانية على مرمى “عومة” حيث جلست، ذات عشية هادئة، بعد عاصفة الفنيدق الأخيرة، أتأمل في الضفة الأخرى الممتدة على خفر بعض الضباب الخفيف الذي لا يحجبها عن الناظر، وفي بعض الأطفال والشباب الذين يتدربون على السباحة، وفي سيارات الشرطة المركونة على جنب، ورجال الأمن لا يستخدمون سوى صفارات لتنبيه السابحين كلما ابتعد أحدهم أكثر من اللازم.
تبدو تلك الأرض بهية، تدعوك بخجل، إلى القفز من على الصخور الصغيرة والسباحة نحوها لكنك تتذكر أن الوطن هنا، وربما الأهل كذلك، وقد تتذكر أنه في غفلة منك هرمت ولم تعد عضلات السباحة قادرة على الاستجابة لنداء تلك البهية التي كانت في زمن غابر موطنا لك أنت أيضا. ثم تتذكر الأهم؛ لماذا تغادر وأنت على تراب المغرب، مملكة العجائب والغرائب، التي ما أن ينتهي فيها مسلسل حتى يبدأ آخر؟ لماذا المغادرة وأنت لا تزال على قيد الحياة بعد ما يفوق نصف قرن من العيش والتعايش والمقاومة والجهاد في مملكة ترى فيها العجب على مدار السنة وليس فقط في رجب؟!
يتملكك الفخر للحظة، وتتردد بين الضحك والبكاء وقد تجمعهما وأنت تستعيد شريط حياتك وحياة هذا الوطن وهذا الشعب، والمنعطفات التاريخية التي مر منها، تضحيات من ضحوا، نجاحات من نجحوا، الانتصارات الصغيرة والفرص المهدورة…ثم تصل إلى فيلم “الهروب الكبير” ليوم 15 شتنبر 2024.
تحتار، لكنك في النهاية تختار الافتخار بالنسخة المغربية لشريط “الهروب الكبير”، لا لشيء إلا لأنه سابقة في التاريخ البشري، واستثناء يميز بيننا وبين أمم الأرض جميعا. ركزوا معي، فالأمر يحتاج إلى تركيز مغربي قح، حيث يتعلق بهجرة “جماعية سرية معلن عنها” وبهجرة “غير شرعية وغير قانونية” من مدينة الفنيدق المغربية إلى مدينة سبتة المغربية كذلك! من غيرنا يستطيع الجمع بين كل هذه المتناقضات في جملة واحدة؟!
من غيرنا يعلن ما هو سري، ويجمع آلاف الأفراد المتفرقين في المجال للقيام بفعل جماعي يعد “خرقا للقانون”؟ من غيرنا ينشر لقطات شباب عراة “أنقذتهم” رغما عنهم قوات الأمن من البحر وأركعتهم ليسجدوا حمدا على رجوعهم “سالمين غانمين” لأرض الوطن؟ من غيرنا يقاوم ويبكي ويكسر ويضرب بالحجارة ويتمسك بأي صخرة حتى لا “تنقذه” قوات الأمن وتعيده إلى “وطنه”؟ من غير شعبنا يوجد فيه “حقوقيون” ينعتون القاصرين بالصعاليك و”يأمرون” النيابة العامة بالتدخل للضرب بيد من حديد على أيدي هذه “الشرذمة” و”الخونة”، إلى غير ذلك من مصطلحات زمن الرصاص البائدة؟
من غيرنا يعلن عن “رحيله السري” بالغيطة والطبل ويعود محمولا فوق “العمارية”؟ ويظل “الطايح أكثر من النايض” من الفريقين، طبعا في لقاء غير متكافئ بين أبطال الفيلم: “الهاربون” من جهة، العُزَّل سوى من “الشورت” والحجارة و”الحراس” المدججون بالعتاد والعدة اللازمة من جهة ثانية.
فيلم يستحق المشاهدة فعلا، رغم أن “المتفرجين الصامتين” معنيون بهذا “الهروب الكبير” وكان عليهم حضور “الكاستينغ” للمشاركة في الفيلم، على الأقل ككومبارس. لكن يبقى السؤال عن هوية كاتب هذا السيناريو المبهر وعن “العبقري” الذي أخرج هذا الفيلم. الحمد لله أننا نشاهد ونرى ما خلف الصورة ونستطيع تمييز “الطاقم التقني” الذي صور تلك الصور “المفبركة الحقيقية”، وانحرف بالنقاش من دواعي وحيثيات “الهروب الكبير” إلى “صدقية” الصور من عدمها، والتحقق من جنسية “الهاربين” ونسبهم إلى الجيران ولم لا إلى غانا؟
شاهدنا وما زلنا نتابع هذا الفيلم العجيب وكنا سنصفق لولا أن وقع خطأ جسيم في “الكاستينغ”، عندما عقد أحد الممثلين الذين لم يشاركوا في الفيلم ندوة صحافية، نطق فيها باسم أحد المساهمين في الإنتاج وساوى بين فيلمنا وغيره من أفلام “الهروب الكبير” الموجودة في العالم أجمع. كما قال بالحرف بأن “الهاربين” تم تحريضهم، أي نعم استعمل مصطلح “التحريض” أكثر من مرة؛ ثم شكر “الحراس” على واجبهم وأثنى على “حكمة” رؤسائهم. صحيح، إن الطرف الأمني تعامل بحكمة يفتقر إليها الممثل المذكور، فلو صمت لكان أحسن. لكن التعامل بمقاربة أمنية محضة، حتى وإن كانت ناجعة في الإطفاء الآني لنيران الملفات الاجتماعية والسياسية والإعلامية… كلما اندلعت، لا يعفي أولي الأمر من المساءلة عن غياب المقاربات الأخرى سواء العلاجية أو الوقائية. فالأمر شبيه بجسم لا يستخدم سوى رجله للركل الاستعجالي كلما تعرض للخطر، بدل استخدام أعضائه كلها، بدءا بالرأس المدبر وانتهاء بعظم الترقوة، لاستباق الخطر وتغذية مناعة وروافد تقوية الجسم على مدار الساعة، والدفاع عن أعضائه عضوا عضوا في حالة تعطل كل هاته الآليات وتعرض الجسم لتهديد طارئ ما.
أما ذلك الممثل، فأنا أعتبره منذ اليوم الأول لاستقدامه خطأً من أخطاء “الكاستينغ” الكثيرة في فريق مكون أصلا من عدد لا يستهان به من الممثلين المنتمين إلى مسرح “الهواة”، وهذا ليس انتقاصا من هذا الصنف الفني. بالعكس، فكل ما نطلبه هو أن يرحل كل من يفسد علينا فيلما بقيمة “الهروب الكبير” الخاص بنا، بشطحات إعلامية لهواة لا يجدر بهم حتى أن يعتلوا خشبة نكرة في الحي الخلفي، فكيف تمنح لهم البطولة المطلقة فوق أكبر خشبة في بلد قادر على فعل “العجائب”؟