
الزعيم الطالبي: راديكالية الإصلاح الديمقراطي وثراء الجملة السياسية.
بقلم: ذ. حسن طارق*
بسمة نسائية/ منبر بسمة
حاملاً رُزمة جرائد، وهو يقف بمعطف شتوي طويل في الباحة الخارجية لمحطة الرباط المدينة، راسماً على محيّاه نصف ابتسامة خجولة، فيما تشتعل سيجارة بين الأصابع الدقيقة ليده اليمنى.
هكذا رأيت محمد الحبيب طالب لأول مرة في خريف 1995. كنت رفقة أصدقاء من المسؤولين الطلابيين قادمين من زنقة تانسيف بأكدال بعد نهاية إحدى حلقات الحوار الفصائلي الوطني، حيث كان ينتظر -غالبا- الرفيقين اللذان حضرا الحوار باسم الطلبة الديمقراطيين.
تقدمنا لتحيته. لكني في زحمة السلام والكلمات القليلة التي تقاسمناها معه على عجل، لم أتبيّن جيدا الفروق بين الوجه الماثل أمامي وبين الصورة التي كنت أحتفظ بها له في مخيالي، ولعلها كانت صورة مركبة من ما يتبقى من ملامح في صورته الصغيرة بالأبيض والأسود في الصفحات الداخلية لأنوال ومن الحكايات الممتدة لرفاقه التي ترسم قسمات مختلفة للرفيق الطالبي كما يحلو لهم أن يُنادوه.
لا شك أني عثرت على نفس العينين الذكيتين المُختبئتين وسط كثافة الشعر والشارب، وربما قد أكون وجدت الرفيق الطالبي الذي بادلته السلام، أصغر قليلا من صورته المُستقرة في مخيالي.
في الواقع شخصيا، كل ما شعرت به، هو أنني صافحت صاحب مقال “الوعي الديمقراطي والوعي المتأخر ! ”
كنت – حينها – قد قرأت هذا النص عشرات المرّات. أولها في صيف 1993، إذ بعد نهاية السنة الجامعية – وكنت آنذاك مسؤولاً باللجنة الوطنية للقطاع الطلابي الاتحادي – سيقترح علي الصديق حسن التايقي – مسؤول الطلبة الديمقراطيين بكلية الحقوق بفاس وعضو الكتابة الوطنية لطلبة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي – قضاء عطلة الصيف بمدينة مارتيل.
هناك في بيت أخ الصديق حسن (ذ. لحسن التايقي)، سنقضي – كأي طالبين ملتزمين زاهدين في صيف الشمال! – أوقاتاً طويلة رفقة مجلدين ضخمين لأنوال ولأنوال الثقافي.
مضى وقت طويل على قراءاتي الأولى لهذا المقال المُؤسّس، الذي نُشر في العدد الثاني من جريدة أنوال، الصادر في منتصف دجنبر 1979، لكنه ظل بالنسبة إلى نصّاً بلا تجاعيد، أعود إليه بنفس إنبهار الطالب الذي كنُته في ذلك الصيف البعيد.
استطعت سنوات بعد ذلك أن أنظر إلى هذا النص في سياق تطور الفكر السياسي المغربي، و في تقاطعاته مع مشاريع سياسية ونظرية بالشرق في زمن المراجعات داخل اليسار العربي الجديد، أو في التقائه مع مرجعيات فكرية مغربية (مشروع عبدالله العروي ومواقفه من الطفرة الليبرالية والتأخر التاريخي)، لكني – كما كتبت مرة- لم أستطع أن أتخلص من نظرتي إليه باعتباره المعطف الذي خرجت منه منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، كمدرسة كبيرة في التأصيل الثقافي للنضال الديمقراطي في أبعاده المجتمعية (دمقرطة المجتمع) والسياسية (دمقرطة الدولة).
خمسة سنوات بعد ذلك اللقاء العابر، وبعد أن كنت قد نشرت مقال رأي بجريدة الأحداث المغربية، أساجل فيه نوعاً من الإيديولوجيا الشبابوية التي برزت في سياق بدايات الألفية، سيخبرني الصديق عبد الواحد بوكريان – فيما بعد – بأن الرفيق الطالبي قد أعجب بالمقال، وهو ما أشعرني بغبطة لا توصف!
بعد ذلك وفي العام 2004، سيطلب مني الصديق ادريس العيساوي المُساهمة في صفحة الرأي بجريدة الصحراء، التي كان يشرف على تحريرها، بمقال أسبوعي. وإذا كانت الالتزام بتحرير عمود دوري في جريدة وطنية قد كان أمراً مهماً بالنسبة إلي في ذلك الوقت، فإن وجود السي محمد الحبيب طالب إلى جانبي في نفس الصفحة، كان شيئاً رائعاً..
إذ أن علاقتي الشخصية به تعود أساساً إلى تفاعله مع مقالٍ نشرته هناك حول احتمال اندماج الحزب الاشتراكي الديمقراطي في صفوف الاتحاد الاشتراكي، تحت عنوان “هل للنهر منبع واحد؟ “.
استمر تواصلي معه لزمن طويل، وتعددت لقاءاتنا: في النادي، داخل مقرات الحزب، في ندوات مشتركة، في المقهى المحاذي لمحطة القطار أو في المقهى القريب من مدرسة الإدارة..
طوال مسؤولياتي السياسية داخل الشبيبة أو الحزب، أو انشغالاتي البحثية أو خلال فترات الكتابة السياسية في الصحافة، ظل الرفيق الطالبي – من قريب أو من بعيد – بالنسبة إلي معلماً مُلهماً.
في كل ما عشته من أحداث ووقائع ومحطات من تاريخنا الراهن، كنت أنتظر – بحرص بالغ – أن أقرأ له نصاً أو تصريحاً أو حواراً، ليس لأني أعرف قدرته على قراءة المرحلة – فقط – ولكن لأني أثق في إمكانياته – القيادية – في رسم معالم الأفق، رغم كل التباسات السياق في بعض الحالات وتقاطب التقديرات في حالات أخرى!
لعلنا لم نعد نُصادف في معجمنا السياسي، كلمة “المُنظر” فالغالب أن السياسة المبتلعة – في العالم- من طرف ثالوت: الخبرة والتواصل والمشاعر لم تعد في حاجة إلى أفكار ونظريات، لكن المؤكد أن الكلمة في سياقنا المغربي تحيل إلى قائمة صغيرة من الأسماء يعد الأستاذ الحبيب طالب أبرزها.
نعم هو امتداد لتقليد مغربي، يعود للحظة اللقاء الأول مع زمن السياسة الحديثة، لدى الوطنيين المؤسسين (علال الفاسي، بلحسن الوزاني، عبدالله ابراهيم …)، لكنه في نظري يبقى الحالة الأكثر نموذجية لرسوخ العلاقة وتطابُقها بين “المُنظر” وبين حركته السياسية، لذلك كان الطالبي دائما الزعيم / المُنظر، بعيداً عن صيغة منظر الخِدمة الذي تربطه علاقة وظيفية بالحزب وزعاماته، أو شكل الزعيم / المثقف الذي يُزاوج بين القيادة السياسية والإنتاج الفكري دون أن يقدم لحركته السياسية نظرية متكاملة في الفعل السياسي.
أسهم محمد الحبيب طالب في تجديد الفكر السياسي المغربي، وفي إنتاج الأفكار المرافقة للتغيير، ثم في تحويل هذه الأفكار إلى تقدم، وفي أثناء ذلك أسدى خدمة جليلة للسياسة المغربية: منحها لغة جديدة، ومَكنها من كلمات ومفاهيم وتعابير خلاقة، تكثف المرحلة بكل التعقد الموضوعي وترسم الأفق بكل الوضوح الضروري.
لقد كان الرفيق الطالبي، في هذا المستوى، بدون مبالغات يستدعيها سياق الاحتفاء: ناحتاً بارعاً للجُملة السياسية المغربية الحديثة.
لذلك لم يكن يحتاج لتوقيع مقالاته في أنوال أو في السياسة الجديدة، فجملته السياسية كانت تحمل بصمته الخاصة وتوقيعه الفريد. نحن كذلك لم نكن نحتاج لوقت طويل ونحن نقرأ افتتاحية أو وثيقة حزيية أو بيانا سياسيا، لكي نتعرف على قلمه الذي خط تلك الحروف.
انتصر محمد الحبيب طالب في معركته الايديولوجية الأصلية، فالإصلاح الذي لم يعد “سُبة” في أفواه المغامرات الطفولية للسياسة، فقد منحته سنوات النضال الديمقراطي مضامين جديدة تحيل على التقدم والنهضة. والليبرالية السياسية لم تعد كلمة بذيئة في الاستعارات الحديثة للمرحلة، حيث الديمقراطية وحقوق الإنسان تحولتا إلى مشترك وطني، بين فرقاء الايديولوجيا، كما بين الدولة والمجتمع.
لكنه انتصر أكثر في الاختبارات الانسانية للحياة اليومية: كان ولا يزال رمزاً للبساطة والتواضع والكرم العاطفي كما يليق بمناضل إنساني نبيل من زمن آخر، لذلك فقد استحق دائما محبة رفاقه ووفاء أصدقائه واعتراف مجايليه.
لدي شعور دائم، بأني مدين للسي الطالبي بأشياء كثيرة. وإذا كان يستحق منا احتفاء أكبر بمنجزه السياسي والفكري، فإن شروط هذه الشهادة الوجيزة، لا تسمح بغير هذه التحية السريعة لمناضل كبير، مع متمنياتي له بالصحة والعافية.
*د.حسن طارق/ جامعي وكاتب.