بين بق فرنسا، وجيش مهدي الكسّال

بقلم: حاميد اليوسفي
بسمة نسائية/ منبر بسمة
عندما سمعت بأن مدينة باريس إحدى رموز الحضارة الحديثة بكل قدها وقامتها، يغزوها البق هذه الأيام، أخذتني دهشة غريبة. في البداية لم أصدق الخبر.. اعتقدت أنه مزحة من مزح وسائط التواصل الاجتماعي، انتقلت عدواها إلى المواقع الإخبارية.. لكن بعد البحث والتقصي ظهر أن البق يسكن العديد من المرافق في مدينة الأنوار ومنذ سنوات.. غير أنه اليوم تجاوز الحدود، وخرج من الفنادق العتيقة إلى المقاهي ووسائل المواصلات كالقطار والمترو والسيارة والحافلة وغيرها..
ورغم أن البق لا يظهر إلا في الظلام، ويختفي مع ضوء النهار بعد أن يملأ بطنه بما امتصه من دماء، فإنه فعل عكس ذلك في باريس. ربما لأن أنوار المدينة خفتت وسط العتمة، ولم تعد تنير فضاءاتها بما يكفي من الضوء..
كان الله في عون الفرنسيين هذه الأيام.. قد تكون التهمة جاهزة.. هؤلاء البدو القادمين من شمال افريقيا، أو أدغالها هم من جلبوا معهم البق إلى المدينة..
كم هو مؤلم أن يُمرغ البق أنف الارستقراطية الباريسية في التراب..
وكم مؤلم أيضا للأرستقراطية عندنا التي ألفت أن تفخر باقتناء كل ما تحتاجه من عطور وأحذية وأقمشة من متاجر باريس.. ربما أصبح اليوم التسوق من عاصمة الأنوار سبة أو مذلة مقترنة بوصمة البق..
القمل والبق والبرغوث حشرات تعرفها الأجيال المغربية القديمة التي عاشت في الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. هذا النوع من الحشرات التي انقرضت اليوم، كان يسكن البيوت التي سقوفها من خشب، ويختبئ في الجبص والأغطية والأفرشة والألبسة، وبعضها يسكن شعر الرأس..
وربما لازالت هذه الأجيال تتذكر (الرابوز) الصغير الذي يُشحن بدواء القمل، ويُنفخ به على رؤوس الأطفال أمام أبواب المدارس الابتدائية قبل التوجه إلى الأقسام..
وعندما تنتهي النساء في جلسة المساء من عمل المنزل، يدْعين البنات للجلوس في أحضانهن، ويمشطن شعرهن، ويفحصنه ويُنقّينه من القمل، ويُرطّبنه بزيت الزيتون قبل غسله في اليوم الموالي..
ولا ننسى أن مّالين الحمام في جامع الفنا الشرقاوي وبنفايدة حسبا أصل البق على مراكش، وأصل البرغوث على الصويرة..
أجيال اليوم محظوظة لأن هذه الحشرات لم تمتص دمها، وتحرمها من الاسترخاء والنوم بسهولة كما فعلت معنا في الماضي..
بالمناسبة والمناسبة شرط، تذكرت مقطعين لمهدي الكسّال رحمة الله عليه، وردا في كتابي “وشوم في الذاكرة” ص 29 ..
المقطع الأول يحكي فيه عن تجربته مع الاستعمار:
ـ إن المغاربة عانوا من استعمار واحد هو فرنسا، أما أنا فقد عانيت من استعمارين، فرنسا وأخي الذي اشتغلت معه عشرين سنة بدون أجر.
والمقطع الثاني يحكي فيه السارد عن الغرفة التي كان يسكن فيها مهدي:
أثاث غرفة الكَسّال قديم ومتآكل بلا ألوان، يتكون من حصير يحتل نصف الغرفة، وسرير كبير، وبجانبه صندوق خشبي لحفظ الملابس والممتلكات الخاصة والصغيرة. وفي الركن الأيسر ما تيسر من أدوات الطبخ، بجانبها قلة ماء للشرب. عندما تدخل غرفة الكسال، وتحملق باندهاش في الجدران المنقطة بالدماء، يبادرك بأنه يقضي الليل في حرب مع الجيش الأحمر، تشبيهه المفضل للبق..
يبدو أن البق والاستعمار وجهان لعملة واحدة كلاهما يمتص دماء الشعوب..
حفظنا وحفظكم الله من بق فرنسا ومن جيش مهدي الأحمر.