الخبيرة الدولية في مجال الذكاء الاصطناعي فاطمة رومات: أفكر جديا في الهجرة ..
*بدل تشجيع البحث تصنع التفاهة..

بعض المؤسسات الجامعية تحولت إلى صناعة التفاهة والتافهين بدل صناعة النخبة والمفكرين..
بسمة نسائية: عزيزة حلاق
تقديم:
فاطمة رومات، أستاذة التعليم العالي في القانون الدولي بجامعة محمد الخامس بالرباط،، هي خبيرة دولية في مجال الذكاء الاصطناعي، وعضو فريق الخبراء في الذكاء الاصطناعي بمنظمة اليونسكو، هي واحدة من الأسماء المغربية اللامعة في مجال البحث العلمي….ولها عدة مساهمات دولية وإصدارات علمية..
في هذا الحوار، استحضرنا معها مسارها الأكاديمي وتفوقها في مجال اشتغالها. وسألناها عن أسباب هجرة الأدمغة المغربية إلى الخارج، فكان جوابها صادقا وصادما وقالت:” إنه واقع نعيشه يوميا ويستنزف طاقاتنا ونؤدي ثمنه سنوات من عمرنا والأمر لا يقتصر على عدم التقدير وحسب كسبب من أسباب الهجرة، بل امتد إلى التضييق والإقصاء إضافة إلى التمييز المبني على النوع بالنسبة للنساء وهذه الممارسات أصبحت للأسف هي القاعدة في العديد من الجامعات والمؤسسات الجامعية التي يسير بعضها أشخاص حملتهم رياح الفساد و التفاهة… ولكي يحافظوا على مناصبهم بدأوا بتسخير المؤسسات الجامعية إلى صناعة التفاهة والتافهين بدل صناعة النخبة والمفكرين.
*بداية نهنأك بهذا العمل الفكري الأكاديمي الجديد الذي يتناول موضوع الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي، ونشد على يديك ونرفع لك القبعة، باعتبارك واحدة من العالمات المغربيات المتميزات ومفخرة للبحث العلمي ببلادنا..
لو تفضلت نريد تعريفا مبسطا عن مفهوم الذكاء الاصطناعي، ولماذا اخترت هذا التخصص، وما مدى مستوى الاهتمام به عندنا في المغرب؟ وما هي أفق هذا العلم؟
– أثار مفهوم الذكاء الاصطناعي جدلا واسعا واختلف الخبراء في تعريفه بين من اعتبره فرعا من فروع علوم الحاسوب أي ذلك الحقل المعرفي الذي يهتم بتطوير الحواسيب، لتصبح قادرة على القيام بعمليات شبيهة بتلك التي يقوم بها البشر والمقصود هنا التعلم والتفكير بعقلانية وباستخدام المنطق بل ايضا القدرة على تصحيح الاخطاء في حالة وقوعها. وهناك من يعرف الذكاء الاصطناعي بالتطور التكنولوجي الدي يجعل للآلة قدرات مثل ذكاء البشر اي القدرة على التعلم والتفكير والتكيف والتصحيح الذاتي، الخ. وهناك من يعتبره توسيعا لنطاق الذكاء البشري من خلال استخدام الحواسيب وذلك بتطوير تقنيات البرمجة أكثر فعالية، كما جري في الماضي عندما تم تعويض المجهود البدني بالآلة الميكانيكية.
لكن، تعريف المفهوم تطور بنفس الوتيرة التي عرفها التطور التكنولوجي، لتكون نقطة الالتقاء بين كل التعاريف الحديثة هي محاولة “تقليد السلوك البشري الذكي”.
و على العموم يمكن الوقوف عند أربعة أنواع من الأنظمة الذكية وهي :
-الأنظمة التي تفكر مثل البشر
-الأنظمة التي تتصرف مثل البشر
-الأنظمة التي تفكر بعقلانية
– الأنظمة التي تعمل بعقلانية.
* طيب، كيف جرى اختيارك لهذا العلم الجديد بالنسبة لنا، وكيف انجذبت له؟
– في الواقع هذا التخصص هو الذي اختارني، الذكاء الاصطناعي ليس جديدا، حيث يعود ظهوره إلى الخمسينيات من القرن الماضي و عرف مراحل تطور كثيرة أهمها سنة 2000 مع ظهور ما سمى بالويب 2.0 .
*متى بدأ اشتغالك على التكنولوجيا، بشكل عام؟
– بدأت الاشتغال على التكنولوجيا بشكل عام، قبل التركيز في مرحلة لاحقة على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، منذ أواخر التسعينيات و كان ذلك في إطار دبلوم الدراسات العليا المعمقة حيث أنجزت بحث التخرج حول “دور الاستثمار في التكنولوجيا في تحقيق التنمية في المغرب”.
ثم أكملت البحث في نفس الإطار و أنجزت أطروحة للحصول على الدكتوراه حول موضوع “تحديات التنمية التكنولوجية: مساهمة في دراسة سياسة تكنولوجية مغربية” وبعدها اشتغلت مع مراكز بحثية دولية، حول التعاون الدولي في مجال التكنولوجيا و الأمن السيبيرياني و الذكاء الاصطناعي و تزامن ذلك مع بداية الاشتغال على مخطط المغرب الرقمي 2013 والذي أعطيت الانطلاقة الرسمية له سنة 2009.
وفي سنة 2020 نقلتنا جائحة كرونا إلى مرحلة مهمة في تاريخ تطور هذه التكنولوجيا.
*ماذا تقصدين بذلك؟
– أقصد الانتقال إلى عصر الذكاء الاصطناعي لا التحول الرقمي، فالجائحة وضعت العالم كله أمام تحدي الانتقال إلى عصر الذكاء الاصطناعي الذي بدأ السباق نحوه من طرف القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين والمملكة المتحدة وكندا وروسيا والدول الأوروبية و غيرها من الدول التي تستثمر في هذا المجال.
*ما موقع المغرب على هذا المستوى؟
– بالنسبة للمغرب فهو يحتل المرتبة 56 بحسب مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي الذي يشمل 62 دولة من القوى التي تسرع التطور في الذكاء الاصطناعي من خلال ثلاث ركائز أساسية.
* ماهي هذه الركائز؟
– هي الاستثمار والابتكار والتنفيذ. وبإمكان المغرب أن يحقق نتائج أفضل لو اهتم بتأثيرات الذكاء الاصطناعي والتي تحظى باهتمام كبير من طرف المنظمات الدولية والإقليمية. فكما أن الهدف الأساسي للذكاء الاصطناعي هو تحقيق التنمية المستدامة والرفاهية وتسهيل تمكين الأفراد من حقوقهم فانه بالمقابل له العديد من السلبيات التي يمكن أن تصبح مخاطر عندما يتعلق الأمر بالاستعمالات الخبيثة لهده التكنولوجيا. مثلا لتوجيه الرأي العام والتأثير على المسار الديمقراطي خلال العملية الانتخابية وأحيانا تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين عندما يتم استخدامها في المجال العسكري، لاسيما تلك التي تتسم بنسبة عالية من الاستقلالية عن البشر في اتخاذ القرار كالربوتات القاتلة. هذه التحديات والمخاطر والتهديدات تفرض على المغرب تبني سياسة منفتحة على كافة الفاعلين في المجتمع، لاسيما المجتمع المدني والشركات والانفتاح على حقول معرفية أخرى لها علاقة بالتأثيرات المتوقعة وغير المتوقعة للذكاء الاصطناعي مثل العلوم القانونية والاقتصاد والفلسفة والسوسيولوجيا والإعلام واللغات وكل التخصصات العلمية وألا تقتصر فقط على الرياضيات والإعلاميات. بل أن تدريس الذكاء الاصطناعي يجب أن يبدأ من المستويات الأولى للتعليم لأن الأطفال يتعاملون مع الأنظمة الذكية سواء أثناء التعلم عن بعد وأثناء اللعب لان اللعب الالكترونية أيضا تتضمن هذه الأنظمة الذكية و تؤثر على الأطفال بشكل كبير.
*من خلال تجربتك كأستاذة جامعية، هل هناك إقبال من قبل الطلبة على هذا العلم؟
– طبعا هناك إقبال كبير رغم المعيقات المادية وتلك المرتبطة باللغة، الجامعات المغربية تزخر برأسمال بشري مهم وبثروة بشرية حقيقية، كلها أمل وطموح ورغبة في التعلم وخدمة الوطن وقادرة على الارتقاء بالمغرب إلى مصاف الدول المتقدمة في الذكاء الاصطناعي..
* ماذا ينقصها إذن؟
– تنقصها فقط، سياسة تعليمية تكون في مستوى هذه الفئة وفي مستوى الظرفية التاريخية. شخصيا أشرف على بحوث ورسائل الماستر والدكتوراه لطلبة وطالبات يحق لنا أن نفتخر بهم، على الرغم من البنية التحتية التكنولوجية الضعيفة وافتقار مؤسستنا لأبسط شروط البحث المتمثل في مكتبة تتضمن كتب في مجال الذكاء الاصطناعي وحديثة ورغم عدم توفر طلبة الماستر والدكتوراه على منح تساعدهم، فلا شيء من هذا أوقفهم و اختاروا المغامرة في تناول مواضيع بحثية نوقش بعضها لأول مرة في المغرب مثل أطروحة أشرفت عليها و نوقشت سنة 2021 حول الدبلوماسية الرقمية.
وأول بحث للماستر في المغرب حول حقوق الإنسان في الفضاء الرقمي نوقش سنة 2018. وآخر حول الذكاء الاصطناعي والأمن الدولي نوقش سنة 2019.
وأول أطروحة حول السيادة التكنولوجية وغيرها من المجهودات البحثية الأكاديمية التي يقوم بها الطلبة الباحثين الذين يشتغلون تحت إشرافي وهناك العديد من الطلبة في جامعات أخرى اختاروا مواضيع لها علاقة بالذكاء الاصطناعي.
*لنعد إلى كتابك الأخير: “الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي والبحث العلمي التطورات المستقبلية” ماهي أهم محاوره؟
– يتناول هذا الكتاب التفاعل بين الذكاء الاصطناعي والتعليم العالي. ويسلط الضوء على التأثيرات المتوقعة وغير المتوقعة للذكاء الاصطناعي على التعليم العالي والبحث العلمي، ويناقش كيف يعزز التعليم العالي والبحث العلمي تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. استنادا إلى تحليل منهجي مع تعدد المقاربات بحسب تعدد الحقول المعرفية للمشاركين فيه إضافة إلى الجمع بين النظرية والتطبيق. يقدم الكتاب وجهات نظر مختلفة للاستخدام المكثف للذكاء الاصطناعي في التعليم العالي والبحث العلمي منذ ظهور جائحة كرونا. يناقش هذا الكتاب أيضا أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لاسيما التوصية التي اعتمدتها اليونسكو سنة 2021. كما يشرح أهمية السيادة التكنولوجية والاستراتيجيات الجديدة لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية المتعلقة بالتعليم الإلكتروني والتعلم الآلي. والمشاركون والمشاركات في الكتاب هم أساتذة باحثين وأستاذات باحثات من بلدان مختلفة، أما التقديم فأنجزته رئيسة المعلومة لكل البرامج، اليونسكو.
*هل من أرقام حول الميزانية المخصصة للبحث العلمي؟ وهل من مقارنة مع دول أخرى؟
– يخصص المغرب 0.75 في المائة من الناتج الداخلي الخام للبحث العلمي مقابل 0.76 في المائة في رواندا و 0.96 في المائة في مصر وفي الإمارات العربية المتحدة1.45 و في اسرائيل 5.44 في المائة في حسب الإحصائيات الأخيرة للبنك الدولي.
لكن، المشكل لا يكمن فقط في ضعف الميزانية المخصصة للبحث العلمي بل يتجلى أيضا في طريقة تدبير الميزانية فقد أصبحت أشغال البناء شيئا مألوفا في الحياة الجامعية، كل عميد جديد يفتح ورشا جديد للبناء بدل دعم البحث العلمي. الأهم من شكل البناية وزخرفتها تمكنها من الحصول على مرتبة جيدة في التصنيفات العالمية. النشر في المجلات العلمية المصنفة والمشاركة في الندوات الدولية تؤدى عنها مبالغ مرتفعة وكل الجامعات الدولية تقدم الدعم المادي لأنشطة البحث العلمي التي يقوم بها الأساتذة الباحثون والطلبة في سلك الدكتوراه ما عدا لدينا. ثم إن من مظاهر التدبير السلبي للمؤسسات الجامعية ما يعرف بإجازة التميز وماستر التميز و لتي تضرب مبدأي المساواة و تكافئ الفرص بين كل الطلبة وتعزز الفوارق الطبقية و تفتح بابا أخر “للريع الجامعي” بدل العمل على ضمان التميز للجميع والارتقاء بمستوى التعليم العالي للجميع كما هو الأمر في البلدان التي لديها أنظمة تعليمية نموذجية مثل فنلندا و غيرها من الدول التي تحتل جامعاتها الصدارة في التصنيفات العالمية.
* في هذا السياق، وأمام هذه الظروف، كثير من الأساتذة الباحثين ومن الأكاديميين المغاربة يشتكون من عدم تقدير مجهوداتهم وأبحاثهم من طرف المسؤولين عن قطاع البحث العلمي، مما يسهم بهجرة الأدمغة بحثا عن ظروف عمل أفضل بالخارج. ما قولك في هذه الظاهرة؟
– هذا واقع نعيشه يوميا ويستنزف طاقاتنا ونؤدي ثمنه سنوات من عمرنا والأمر لا يقتصر على عدم التقدير وحسب، بل امتد إلى التضييق والإقصاء إضافة إلى التمييز المبني على النوع بالنسبة للنساء وهذه الممارسات أصبحت للأسف هي القاعدة في العديد من الجامعات والمؤسسات الجامعية التي يسير بعضها أشخاص حملتهم رياح الفساد والتفاهة. ولكي يحافظوا على مناصبهم بدؤوا بتسخير المؤسسات الجامعية إلى صناعة التفاهة والتافهين بدل صناعة النخبة والمفكرين. لو قامت الوزارة الوصية بإحصاء الأساتذة الباحثين والأستاذات الباحثات الدين يتعرضون للتضييق داخل المؤسسات الجامعية لوجدت أرقاما مخيفة وحالات لا يمكن أن يقبل بها من له غيرة على البحث العلمي بهذا الوطن.
*أمام هذه الظروف الغير مريحة للاشتغال، هل صادف وفكرت في الهجرة نحو آفاق أخرى؟
– لا أظن أن هناك أستاذا باحثا منخرطا في المجهود الوطني والدولي للبحث العلمي لا يفكر في الهجرة. ناهيك عن نزيف الاستقالات والتقاعد النسبي.
بالنسبة لي تجاوزت التفكير إلى الفعل. أنا بالفعل اشتغل على مشروع الانتقال إلى بلد آخر بعد مسلسل التضييق والإقصاء الممنهج والتمييز المبني على النوع الذي تعرضت له ومازلت أتعرض له أنا وغيري من الزملاء والزميلات من طرف بعض من فتحت لهم أبواب الجامعات على مصراعيها وتمت تزكيتهم في إطار اقتسام الكعكة ضاربين بعرض الحائط البحث العلمي والتعليم العالي (هذا موضوع مذكرات أستاذة جامعية سأنشره عما قريب).
* إذنن تفكرين جديا في الهجرة ومغادرة المغرب؟
-نعم، سأغادر لبعض الوقت فيما يشبه استراحة محاربة، أقولها بمرارة ممزوجة بالشفقة. المرارة لأننا جميعا نؤدي ثمن الفساد الذي أصبح متغلغلا في الجامعات المغربية وأؤكد أن لا إصلاح دون محاربة الفساد. والشفقة على من يشرفون ويساهمون في تدبير هذه المؤسسات لأنهم ضيعوا على أنفسهم فرصة خدمة الوطن مقابل مصالحهم الشخصية. لم يتبقى من عمري المهني الشيء الكثير وأريد أن امضي ما تبقى منه في بيئة سليمة تساعدني على العطاء أكثر وبشكل أفضل بدل هدره في الصراعات المجانية.