انضموا لنا سيسعدنا تواجدكم معنا

انضمام
أخبار بسمة

سير النساء: صور من الوجع والظلم والغبن…

بقلم: د.العالية ماء العينين

(الورقة قدمتها الأستاذة العالية ماء العينين في ندوة نظمت ضمن لقاءات المعرض الدولي للكتاب والنشر تحت عنوان:” مؤنث الإبداع”)..

الإبداع النسائي صوت إنساني..

إن التفكير في “مؤنث الإبداع” محطة مهمة في إبداع المرأة من واجهتين، الأولى الاقتراب من خصوصية التجربة الإبداعية النسائية كصوت مختلف أو له ما يميزه في إطار إغناء الإبداع عموما، ومن جهة أخرى البحث من خلال هذا الصوت في مواقع العتمة والثقوب في تاريخنا الوطني والإنساني.

بالنسبة لي شخصيا، وأكررها دائما، لم يشكل لي أبدا مصطلح ” الكتابة النسائية” أو “الإبداع النسائي” حرجا أو إشكالا، لأنني اعتبر أن زاوية النظر هي التي تحكم رؤيتي، فبما أنني أرى في الإبداع النسائي صوتا إنسانيا يمكن في جزء منه أن يقدم خصوصية ويجيب عن أسئلة حارقة، وقادر أن يسافر بنا إلى أقاصي، عصية على البلوغ. فهو يمتلك قوته الإبداعية وشروط فرض حضوره، كصوت إنساني يجب أن نستمع لما يريد أن يقوله لنا. ليس فقط إبداعا، بل وحضورا وتجربة حياة، لأنه يعطي الكلمة لجزء مهم من المجتمع ظل مغيبا وبالتالي حرمنا من نصف الحقيقة إن لم نقل جلها، لأن جانبا آخر مهما يتطلب التصحيح. وهذا عمل كبير اشتغل عليه حاليا وسبق لي وقدمت نماذج أو صور تكسر احكامنا النمطية التي أريد لها أن تكون تاريخا للمرأة، والتي تكاد تكون مسجونةً في قالب واحد يعلو فيه صوت الذكورة، ولكن الكثير من الشخصيات النسائية في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، تكسر هذه الصورة النمطية بل وتقلبها، وتدعونا إلى إعادة التفكير من خلال دراسة النصوص الأدبية والتاريخية (سجاح المتنبية، التي ادعت النبوة وتبعها قومها من بني تميم – الحجيجة الشيبانية التي دفعت قومها للانتصار لنجدة ابنة النعمان ابن المنذر بعد أن ردتها كل قبائل العرب، سكينة بنت الحسين، صاحبة أول صالون ادبي نقدي عربي وإسلامي – ديهيا الملكة الامازيغية التي واجهت جيوش المسلمين الفاتحين – كنزة البربرية زوج الإدريس الأول التي حفظت ملك ابنها وأقامت نظاما سياسيا فريدا- فاطمة الفهرية، مؤسسة أول جامعة في العالم… وغيرهن كثر)…

صوت المرأة لم يكن دائما على وتيرة واحدة، وصورتها الحقيقية ليست ثابتة على الهشاشة والضعف، حتى وإن بدت كذلك. حالة الضعف، كثيرا ما تكون “قرارا اجتماعيا” وليست قدرات شخصية مرتبطة بالأنوثة.

وسأحاول هنا، أن أقف عند بعض الصور أو الحالات التي يتوزعها الوجع والظلم والغبن. صور تعبر عن جوانب عميقة من سير النساء قد لا يُلتفت إليها كثيرا أو تذوب تحت شعار “ضعف المرأة” وهي صفة أبعد ما تكون عن نساء يعتبرن نصف المجتمع وأثبتت تجارب الحياة أنهن يمتلكن قدرة جبارة على تحمل الأعباء والمسؤوليات على المستوى النفسي والجسدي.

الصورة الاولى

الوجع إحساس إنساني، لا شك في ذلك، ولكن ارتباطه بالمرأة له خصوصية تجعل علاقتهما عضوية بل ومرتبطة بلحظتين من أهم لحظات حياتها: البلوغ (آلام العادة الشهرية) والخلق (الولادة).  وكأنها يجب أن تقدم ضريبة الوجع من أجل المرور إلى مرحلة/حياة جديدة.

أي أن الصفة التي يعطيها المبدع عموما للحظة الإبداع، بأنها ” مخاض” بالنسبة للمرأة ليست وصفا مجازيا بل لحظة حقيقية. فهل يمكن أن نقول إن الوجع جزء من الأنثى، وزائر دخيل على الرجل؟

هذا الوجع في الإبداع النسائي، سيرة حياة قد لا نجدها في التواريخ الرسمية والسير الأدبية العامة. ولا يجب أن نخلط بينها وبين الضعف والهشاشة. لأن الوجع يفشي مكامن القوة والقدرة على التحمل. وجزء كبير من سير النساء، الغائبة، هي الوجع الحقيقي. ومن ذلك نموذج نقرأه في أبيات جليلة بنت مرة أخت جساس وزوج كليب وائل بن ربيعة. وأسجل هنا أن النقد العرب القديم ربط المرأة الشاعرة، دائما، بالرثاء (الضعف)، والحقيقة أن وجع الشاعرة لم يكن الموت بل معاناتها كأنثى مقطعة الأوصال بين الأخت والزوجة والابنة…

تقول الجليلة:

جَلَّ عِنْدِي فِعْلُ جَسَّاسٍ فَيَا حَسْرَتِي_____ عَمَّا انْجَلَتْ أَوْ تَنْجَلِي

فِعْلُ جَسَّاسٍ عَلَى وَجْدِي بِـــهِ______ قَاطِعٌ ظَهْرِي وَمُدْنٍ أَجَلِي

لَوْ بِعَيْنٍ فُقِئَتْ عَيْنِي سِـــوَى______ أُخْتِهَا فَانْفَقَأَتْ لَمْ أَحْفِـــــــلِ

في هذه الأبيات تصف الشاعرة حالتها حيال الحادثة التي أشعلت نار حرب البسوس، وتعبر عن حرقة المرأة التي شُقَّت نصفين بين بيتين (بيت الأب وبيت الزوج) كلاهما تعتبر عمادا له ولكنه لا يسمى باسمها. وتحمل عبء ما يحدث فيه وتشرب من مرِّه:

يَا قَتِيلاً قَوَّضَ الدَّهْرُ بِــــــهِ_____ سَقْفَ بَيْتَيَّ جَمِيعًا مِنْ عَـــلِ

هَدَمَ البَيْتَ الَّذِي اسْتَحْدَثْتُهُ _____وَانْثَنَى فِي هَدْمِ بَيْتِـــــي الأَوَّلِ

يَشْتَفِي المُدْرِكُ بِالثَّأْرِ وَفِي______ دَرَكِي ثَأْرِيَ ثُكْلُ المُثْكــــــِلِ

إِنَّنِي قَاتِلَةٌ مَقْتُولَةٌ__________ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْتَاحَ لِـــــــــــي

أبيات جليلة تحكي سيرة النساء في زمن القبيلة والصراعات. التاريخ يذكر الحروب ومشعليها وأبطالها ومن ماتوا فيها ولكن لا أحد يذكر المكتوين بنارها خصوصا من جعلهم السياق العام، على هامشها، وهم قلبها الذي يحترق بنيرانها. أبيات الجليلة، صرخة موجعة ولكن لا صدى لها في أتون صراع الزعامات والشرف، فالرجل يقتل من أجل ناقة يعتقد أن فيها شرفه وتدفع المرأة من حياتها، وقلبها ودمها، الثمن كاملا.

الصورة الثانية:

تغييب تأثير النساء في مرحلة بناء الدولة الإسلامية ابتداء من العصر الاموي وطيلة العصر الوسيط والذي عرفت فيه الدولة الإسلامية تمددا مكانيا، رافقته نهضة علمية، فكرية وادبية وفلسفية. ورغم أن هذه النهضة بنيت على أجناس مختلفة (ابن سينا الفارابي ابن فرناس أبو حامد الغزالي النيسابوري ابن المقفع، الثعالبي، سبويه…) بالإضافة إلى العرب، إلا أن هذا الجانب حُسب دائما لصالح الثقافة العربية والإسلامية، ولكن في جانبها الذكوري بدون اعتبار للجنس (أغلبهم من الفرس والبلدان الآسيوية المجاورة) ولا لمكانتهم الاجتماعية (الموالي)،

أما على الجانب الآخر، فقد تم الحجر على “الجواري” وعلى دورهن في الحضارة العربية الإسلامية، ليس أدبيا وفنيا وعلميا فقط، بل وسياسيا (والأمثلة كثيرة عن جواري كانت لهن أدوار حاسمة في سقوط خلفاء وتولية آخرين…)

يقول ابن بسام الشنتريني (450/542) في كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، في معرض حديثه عن محمد بن الكتاني المتطبب، يصفه :”كان فرد أوانه، وباقعة زمانه، منفقا لسوق قيانه، يعلمهن الكتاب والإعراب، وغير ذلك من فنون الآداب، ويورد على لسانه قوله:” في ملكي الآن أربعَ روميات كن بالأمس جاهلات، وهن الآن عالمات حكيمات منطقيات فلسفيات هندسيات موسيقاويات أسطرلابيات معدلات نجوميات نحويات عروضيات أديبات خطاطيات، تدل على ذلك لمن جهلهن الدواوين الكبار التي ظهرت بخطوطهن في معاني القرآن وغريبه وغير ذلك من فنونه…”

الصورة الثالثة:

مي زيادة (1886-1941) سيرة المرأة المبدعة وهاجس اثبات الذات أو عبء الانوثة…

هل الأنوثة نقمة على المبدعات؟ هل أحب المتحلقون حول مي زيادة، أدبها وشخصيتها كمثقفة أم أن كونها امرأة جميلة مثقفة كان أقوى تأثيرا؟

لنتأمل شهادات من كانوا يحضرون إلى صالونها:

الشاعر إسماعيل صبري (1854-1923) الّذي اضطر لِلغياب عَن الصَّالون، فَكتبَ مُعتذرًا عَن الغِياب قائِلًا:

روحي عَلى دورِ بعضِ الحَيِّ حائمةٌ___كظامىءِ الطَيرِ تَوّاقا إلى الماءِ

إن لم أُمَتِّع بَميٍّ ناظـــــــــــــرَيَّ غداً__ أَنكَرتُ صُبحكَ يا يومَ الثُلاثاءِ

وفيها يقول أحمد شوقي أمير الشعراء:

أُسائلُ خاطريْ عمّا سباني___أحُسْنُ الخَلْقِ أمْ حُسْنُ البيانِ

رأيتُ تنافسَ الحُسْنينِ فيها_____كأنّهما لِمَيّةَ عاشقانِ

حياة مي زيادة وحضورها الأدبي، وصالونها، تجربة نسائية تؤرخ لمرحلة مليئة بالدلالات في محطات اثبات المرأة المبدعة لحضورها متحملة عبء أنوثتها، إن صح التعبير، ودفعت ثمنها غاليا، وجعا رافقها إلى مثواها الأخير…

سلامة موسى رائد الاشتراكية المصرية في مصر وأحد دعاة العقلانية والعلمانية والانحياز التام للغرب (حيث درس)، يقول في وصفها: “هي مستديرة الوجه وطفاء الأهداب دعجاء العينين يتألق الذكاء في بريقهما، يجلّل وجهها الجميل شعر جَثلٌ أسْحمٌ، وتلعب أبدًا على شفتيها ابتسامة الخَفَر”. وبعد ذلك سيقول معلقا على ما انتهت اليه حياتها، بأنها عاشت بالعاطفة، ولم تفكر في المستقبل” وخاصة هذا المستقبل البعيد حين يذوي الشباب وتحتاج كل فتاة إلى حكمة العقل إذ ما ذهبت عنها حلاوة الوجه. وأهملت الزواج والأمومة إذ كانت لاهية بشبابها تتلألأ أمام أضيافها الكثيرين كل مساء وكل هؤلاء الأضياف من الباشوات الأثرياء أو من الأدباء الأثرياء أو من الأدباء المعدمين. وكلهم كان معجبًا وإن اختلفوا في مواضع الإعجاب …”،  نص يدعو إلى التأمل والتعجب!!!!

أختم بالقول باننا نحتاج للصوت النسائي (حكيا، شعرا، تجربة وأبحاثا…)، في قراءة التاريخ والواقع، وبناء تصوراتنا المعرفية، يقول محمد شراك في دراسته حول الخطاب النسائي في المغرب نموذج فاطمة المرنيسي: ” هناك ميزة كتابية عند المرنيسي عالمة الاجتماع، بخلفيتها المعرفية الرصينة،  تحضر باستمرار في المتن (ولا بد وأنها شعورية في هذه الحالة)، وهي انتقال الكاتبة من الموضوع إلى الذات…نلاحظ هذا الملمح في كتابتها الميدانية أو النظرية على حد سواء” فهي وكما يستنتج شراك، ” تتجاوز الباحثة دور الوسيط المعرفي إلى انخراطها في الموضوع” و لذلك كانت تعمل دائما على استحضار تفاصيل حياتها الشخصية، كتجربة وكسيرة حياة.  ومن هنا عمق تلك الدراسات التي أنجزتها والنتائج التي توصلت إليها، بعيدا عن موقع الأبراج العاجية، والنظريات الجاهزة والخلفيات الأيديولوجية المبنية على المصالح التي تتذيل المرأة والمجتمع عموما، قائمة اهتماماتها.

صورة من حفل توقيع كتابها:”التبراع” في المعرض الدولي للكتاب والنشر بالرباط.

اظهر المزيد

عزيزة حلاق

مديرة مجلة بسمة نسائية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

تم اكتشاف Adblock المرجو وضع مجلة بسمة في القائمة البيضاء نحن نعول على ايرادات الاعلانات لاستمرارية سير المجلة. شكرا