حناء ومانكيير

سميرة مغداد
لا أدري لم أصبت بنوع من التقاعس عن الكتابة، لعل الكتابة لا تجدي مع التعب، هل يجب أن أكون مرتاحة لأكتب؟ أن تكتب وتبحث في مشاعرك وتأملاتك يستدعي فعلا نوعا من الراحة وقليلا من الترف الفكري.
أحسست خلال المدة الفارطة بنوع من التوقف التام، كنت ألبي كتابات تحت الطلب لا غير، أما أن أحرر مشاعري وأوثقها بروية، فلم أتمكن من ذلك منذ مدة.
بقيت سجينة تعب خاص في الأسبوعين الأخيرين لشهر رمضان حينما سافرت إلى فرنسا لأرافق ابنتي في أول صيام لها خارج الديار. كنت مخطئة لأني اندفعت بقلب أم مشتاقة لابنتها المغتربة، فالصيام والقيام لا يلتئمان إلا في بيتك وعشيرتك أو في الديار المقدسة مع المسلمين الصائمين.
شعرت بجهاد فعلي مع النفس في باريس وسط غير الصائمين الذين احتفوا ببهجة الربيع المزهر بالشمس والورود، كانت أيامي هناك جميلة بإشراقات الشمس والاحتفال بالحياة بما لذ وطاب من أكل وشرب لا ينضب بين شوارع وأزقة العاصمة الفرنسية، لكن لا نكهة للحريرة وتوابلها وطقوسها، مرة واحدة قررت ومن معي أن نبحث عن مطعم محترم في باريس لتجريب نكهة إفطار باريسي فاندهشنا للأثمنة الباهظة..
اقترب آذان المغرب وقررنا الذهاب إلى حي المسلمين والمغاربيين “باربيس”..
أول مرة أدخل هذا الحي، وجدتني أدخل عالما هامشيا مغايرا تماما لأجواء باريس. فالحي ذكوري بامتياز، محلات كثيرة مصطفة للمغاربيين تبيع التمور والحلويات الرمضانية المتنوعة، وجدت الشباكية كبيرة الحجم وحتى بلون مختلف يميل إلى الصفرة، الحديث يدور في معظمه بالعربية تتصدره لهجة الجزائريين والتونسيين ثم المغاربة، أصبت ببعض الخوف أو الحذر على الأصح، وسط حشد من الشباب ينتظرون موعد الإفطار على جنبات الطريق، يرتدون جينزات وسترات كلها إن لم تخني الذاكرة البصرية باللون الأسود، فوضى وضجيج في المكان، وجدتني أنا وابنتي بأناقتنا وسط حشد من الرجال من فئات هشة طلاب وحراكة صغار وشبان تقرأ في نظراتهم الزائغة حكايات نشالين صغار.
كان منظر الالتفاف حول طابور “السيلف سيرفيس” في مطعم صغير من أجل حريرة وبوراك وتمر، أمر مثير ذكرني بأيام المطعم الجامعي لحي السويسي بالرباط، انسجم الناس وتلاحمت الوجوه من أجل إفطار واحد..
كم كان المنظر فريدا ومؤثرا في نفس الآن، الحياة هنا صعبة ورمضان يلملم الشتات على ما يبدو، وضعت ابنتي حقيبتها اليدوية على الكرسي وذهبت لغسل يديها، فنبهها احد العاملين بسرعة لكي تحمل حقيبتها معها..
كنا وسط مجتمع مصغر لحياة الحالمين بأوروبا، للباحثين بعد على فرصة ومكان وسط هذا البعاد الشاهق لهوية المسلم والعربي بصفة عامة..
كان الإفطار استثنائيا لن أنساه أبدا وكأنه إفطار خيري تضامني…
بالقرب منا جلس صبيان صغار لا يتجاوزون 15 سنة أكرمهم صاحب المطعم بالإفطار، غدوا يتسائلون جميعا في لحظة غابت فيها الشمس عن توقيت الأذان بالضبط ليلفوا سجائرهم أولا.
الانحراف لا يلغي بأن تحاول أن تكون مسلما صائما في رمضان . ابنتي ترفض هذا الازدواج وأنا اعتبرته لحظتها محاولة لا بأس بها للدفاع عن الهوية وسط الاستيلاب الغربي الفظيع، تماما مثلما رأيت في يوم العيد وأنا في هولندا كيف كانت مغربيات شابات يتجولن في الشارع بسعادة وقد خضبن أياديهن بالحناء دون أن يغفلن الاعتناء بأظافرهن بالخضوع لمانكيير راقي بمختلف الألوان الجذابة على آخر صيحات الموضة..
أن تعيش مغربيا أو مغاربيا أو حتى عربيا في أوروبا ، فلن لا يتقنه سوى الراسخون في معاني الاغتراب.. كان الله في العون.